حين تصبح “صاحبة الجلالة” بلا كرامة
محمد الفريدي
حين تصبح “صاحبة الجلالة” بلا كرامة
أول من استخدم لقب “صاحبة الجلالة” الذي يُطلق على الصحافة هم الأوروبيون، وهو لقب يعكس مدى احترامهم للصحافة باعتبارها سلطة رابعة توازي في أهميتها السلطات الثلاث الأساسية: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وقد بدأ البريطانيون باستخدامه في القرن التاسع عشر لتأكيد دورها المستقل في مراقبة السلطات الثلاث وحماية حرية التعبير وحقوق المواطنين، وعدم التدخل في اختصاصاتها وممارساتها وسلطاتها وصلاحياتها، ويرمز هذا اللقب إلى هيبة الصحافة ودورها الأساسي في المجتمع، وحقها في نقل الحقيقة بحرية تامة ودون تدخل من أحد مما يجعلها أشبه بـ”ملكة” تجلس على عرش الإعلام، كما ترمز للاستقلالية والقوة، وحماية الحقوق، وصوت الشعب، والحارس الأمين للعدالة والشفافية.
فعندما نتحدث عن الصحافة اليوم، فإننا نتحدث عن “صاحبة الجلالة” التي تجمع بين الكلمة والقلم، وتتحمل مسؤولية تقديم الحقيقة للدولة والمجتمع. وما لقبت بهذا اللقب في أوروبا إلا لمكانتها وقيمتها العالية ككيان مستقل له كرامته واحترامه ووقاره، ولذا لا ينبغي استغلالها بما يقلل من قيمتها وأهدافها السامية.
وبهذا الوصف الذي يعكس مكانتها، يجب علينا ألا نعتبرها مجرد وظيفة أو أداة لنقل الأخبار وعرض الإعلانات وتسويق المنتجات والخدمات، بل كمؤسسة سيادية قوية وضرورية لخدمة الدولة والمجتمع، وتعزز الوعي العام، وتدعم قضايا الوطن والمواطن، وميدانا لأصحاب الفكر الذين يمتلكون شغفا بالحقيقة وإصرارا على أداء واجبهم بكل صدق وأمانة ومسؤولية.
وكرامة الصحافة تكمن في مسؤوليتها في نقل الحقائق، وفضح الفساد، ومحاسبة المقصرين، والدفاع عن الحريات، وتمثيل صوت المواطن. وعندما تُستخدم لأغراض تجارية بحتة، أو لتمجيد أشخاص معينين، أو لتلميع صورة جهة ما لأهداف آنية ومصالح شخصية، فإنها تتخلى عن دورها الحقيقي، وتفقد مهامها الرقابية، وتتحول إلى مجرد وسيلة للدعاية والإعلان كغيرها من وكالات الدعاية والترويج والتسويق والترفيه، وتبتعد عن لقب “صاحبة الجلالة” ورسالتها النبيلة. فصاحبة الجلالة ميدانها تشكيل الوعي العام وتنوير العقول، والالتزام بمعايير الشفافية والموضوعية، ولا تتهاون في نقل الحقائق مهما كانت الصعوبات التي تواجهها، والصحفي الصادق يعمل بضمير حي، ويدرك أن مهمته لا تكمن في تزييف الحقائق أو التملق لأحد، بل في تقديمها بأمانة وصدق حتى لو كانت تتعارض مع مصالحه الشخصية.
وعندما تُستغل لتصبح أداة لتنفيذ أجندات محددة، فإنها تفقد مضمونها كذلك، وتتحول إلى آلة لتلميع الصور وترويج الأفكار التي قد لا تمثل الواقع الحقيقي، وتنحرف عن دورها، وتصبح وسيلة لنقل رسائل سطحية وهامشية وخاضعة لتأثيرات لا تليق بعظمتها. فنستخدمها كـ”ممسحة” بدلًا من أن نعلو برسالتها الحقيقية.
وفقدانها لكرامتها وحيادتها يؤديان إلى اهتزاز ثقة المواطنين بها، ويجعلها تبدو في أعينهم مجرد أداة تلميع متحيزة، مما يضر بمصلحة المواطن والوطن وبحرية التعبير، ويعزز سيطرة فكرة التبعية الفكرية في المجتمع، ويضعف دورها في بناء مجتمع واعٍ قادر على التمييز بين الحقيقة والتضليل، والحق والعدل والباطل.
وتعرضت مؤسساتنا الإعلامية التقليدية في الماضي بما يكفي لضغوط من السلطات الثلاث والشركات الكبرى وعقليات رؤوساء التحرير مما حدّ من قدرتها على تقديم المعلومات للدولة والمجتمع بحرية، وحولوها إلى أداة دعائية بدلا من مصدر مستقل للأخبار والمعلومات. وعانى الكتاب والشعراء والصحفيون القدامى من قمع الحريات، وتعرضوا للمضايقات والاعتقالات، بسبب تغطيتهم لقضايا حساسة أو الإشارة إليها أو التحدث حولها أو الخوض فيها، مما هدد حرية التعبير، وأضعف الدور الرقابي للصحافة التقليدية، التي تراجعت إيراداتها نتيجة لذلك. ومع الانفتاح الرقمي توجه المواطنون نحو الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي بحثا عن حرية التعبير المنشودة مما أوقع مؤسساتنا الإعلامية التقليدية في أزمات مالية متتالية وحرج، فقلص دور بعضها، وأغلق أبواب بعضها، بينما تفكر البقية الباقي في تحويل مبانيها إلى مقاهٍ ومطاعم للكباب والهمبرجر والبسبوسة.
أقول باختصار ان كرامة الصحافة والصحفيين خط أحمر في الدول المتقدمة لكونهما في حماية “صاحبة الجلالة” والسلطة الرابعة، التي هي دائما سلطة مستقلة ومحايدة، تنقل الحقيقة كما هي إلى المجتمع والمسؤولين في الدولة بدون (رتوش) سواء كانت هذه الحقيقة مريحة أو مؤلمة، وعندما تُمس كرامتها تفقد دورها الأساسي في فضح الفساد، ومحاسبة المسؤولين، وتعزيز الشفافية، وتصبح مجرد أداة لتزييف الحقيقة والواقع وتوجيه الرأي العام نحو قضايا هامشية لا تعالج قضاياه، ولا تلامس همومه الجوهرية المتزايدة، فمتى ندرك أن دور “صاحبة الجلالة” ضروري جدا لحماية حقوق المواطنين، وعين مجتمعنا الناقدة وصوتها القوي في مواجهة الظلم وحماية المصالح العامة؟ ﻭمتى ندرك ان الصحافة الحرة والنزيهة تعزز العدالة الاجتماعية، وتدافع عن حقوق الإنسان، وتكافح الفساد، وتوفر المعلومات الضرورية التي يحتاج إليها الوطن والمواطن لاتخاذ القرارات السليمة والصائبة؟
لا يمكننا تحقيق أي تقدم أو تطور في مجتمعنا بدون وجود صحافة حرة ومستقلة تحترم مهنة الصحافة وأخلاقياتها، وتحرس الأمانة والنزاهة والمصداقية، وتنقل الحقيقة بعيدا عن المؤثرات الخارجية التي تهدد نزاهتها وأمانتها ففي أوروبا تعني كلمة “صاحبة الجلالة” استقلالية الصحافة وشموخها، فهي دائما في نظر الشعوب والأوروبيين حرة لا تخضع لإملاءات، ولا تخشى من مواجهة الفساد، وتتمتع بالشجاعة الكافية في قول الحق ووفيه لدورها في نقل صوت المجتمع بصدق وتجرد وحيادية، وصاحبة الجلالة التي نريدها هي صحافة تكتب بصدق، وتتحرى المعلومة بدقة، وتراعي أخلاقيات المهنة، وتظل بعيدة عن أي ضغوط من أي سلطة.
فمهنة الصحافة ليست مجرد مهنة عادية بل هي رسالة سامية ومسؤولية كبيرة، والصحفي الحقيقي ليس مجرد ناقل للمعلومات، بل هو شريك في بناء الوطن، ومدافع عن قضاياه، وحارس لقيمه، وسند له وللحق، وتقع على عاتق الجهات المسؤولة واجب إعادة مكانة صاحبة الجلالة إلى مكانتها الطبيعية؛ فلا ينبغي أن تتحول إلى أداة للتلميع ووسيلة لتحقيق مصالح ضيقة بل يجب أن تبقى مستقلة ونزيهة تنير العقول، وتتصدى للفساد فهي نبض مجتمعنا وصوت الحق فيه، وعندما نصون كرامتها تصبح درعا لحماية الوطن من الزيف والتضليل، ومنارة مضيئة تهدي إلى طريق الحق والعدل، وسراجا منيرا تستنير به الكرة الأرضية والإنسانية.
كاتب رأي



بارك الله قلمك أستاذ محمد
بالتأكيد الصحافة مهنة عظيمة لا تقل شأنًا عن بقية المهن وهي شريان حيوي لإظهار الحقائق ؛ لذا يجب أن يكون الصحفي بارعًا في كلمته ، أمينًا في قلمه ، مخلصًا لضميره، وفيًّا لإحساسه.
أبدعت أبا سلطان.