كُتاب الرأي

على تخوم الهوى… مات قيس واقفًا ينتظر ليلاه

 

على تخوم الهوى… مات قيس واقفًا ينتظر ليلاه

في زوايا الحنين المدفون، وتحت أضلع الريح التي عبرت سهوًا من صحراء الأزل، يسكن الحرف العذريّ متكوّرًا كجنين الحنين في رحم القصيد، يسألُ هل طُمِس العشق؟ أم تنكر الزمان لمراياه القديمة؟
ليس الحب العذري حكاية تُروى، بل هو مقامٌ في عرش السرّ، لا يصعده إلا من خُلِق من حرير الشوق وغبار التوق، ومن عيونٍ لا تبكي إلّا إذا ارتجّت الأنفاس باسم الحبيبة. قيس بن الملوّح ما زال يهمس في تجاويف الطرقات، يمشي حافي القلب بين رماد الأمس، يكتب اسم ليلى على خدِّ السراب، ثم يعتذر للماء لأنه خان عهده بالظمأ.
أما اليوم؟
فقد تنكّرت الدنيا لجميلها، وجفّ الندى من كف بثُينة، وصار العشق صورةً مزيفة في مرآةٍ لا تعكس إلا سطحها.
لكن…
هل مات العشق؟
كلا، بل تغيّر لباسه، وارتدى الرمزية كي لا يُذلّ في الأسواق!
فإن وجدت اليوم قيسًا، فاعلم أنه يتقن فنّ الصمت، يُهدي القصائد لمحبوبته دون أن يذكر اسمها، يسكن في قلبه وطنٌ من أنثى لا يعرفها إلا القوافي، يعيش في عزلته كما يعيش الناس في ضجيجهم، لكنه إذا أغلق عليه الليل ستائر النسيان، استيقظت في صدره آهات الشوق، وأوقد العشق نار الهوى.
في هذا الزمن، العشق العذري لا يُقال، بل يُرسم في اللاوجود.
إنه رسالة مكتوبة بحبر الحنين، لا يقرؤها إلا من عرف الفرق بين الهمس واللمس، وبين القرب والتجلّي.
هو عناق الأرواح لا الأجساد..
ونشيدٌ لا يُغنّى بصوتٍ، بل ينبض في شريان الوجد…
أرأيت قيس هذا الزمان؟
قد يكون شيخًا في هيئة شاب..
أو شابًا في قلب شيخ..
يحمل كتابًا ويقرأ منه كل مساء سطرًا من ليلى..
هو لا يطلب لقاءً، ولا يحلم بنصيب، يكفيه أن تُفتح نافذة، وأن يعرف أن في الطرف الآخر نَفَسًا ما يشبهها.
فيا من تبحث عن قيسٍ جديد، لا تُرهق الذاكرة.
ابحث عنه في القصائد المجهولة…
في الرسائل التي لم تُرسل…
في الدموع التي لا تلمع…
وفي الصور التي لا تُعلّق…
فالعشق العذري لم يمت…
بل صار شجرةً تنبت في جوف من لا يبوح.
كتبه: من تتلمذ على الأطلال، ونهل من دموع العشاق، ولم يكتفِ يومًا من حرفٍ صامتٍ على جبين الزمان.

د. دخيل الله عيضه الحارثي

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى