كُتاب الرأي

عقول مكسورة الجناح

عقول مكسورة الجناح

محمد الفريدي

كتبت مقالا بعنوان “تعليمنا يقتل العقول” قبل أسبوعين، وقد صادف نشره الاحتفال بيوم المعلم، مما أثار حفيظة البعض وتأييد البعض الآخر. والحقيقة أنني، وإن كنت عسكريا لا علاقة له مباشرة بالتعليم، فإنني منذ زمن طويل أراقب مشهد التعليم في مملكتنا كما يراقب الطبيب نبض مريض يتنفس بواسطة الأجهزة الاصطناعية، وأقول رأيي فيه بصراحة، حتى وإن خالف الكثيرين، فلم أعتد أن يُكمَّم صوتي لمجرد اختلاف الآخرين معي.

التعليم عندنا لا يزال، في كثير من حالاته، حبيس غرفة العناية المركزة؛ يتنفّس بفضل الأجهزة الطبية، لا بفضل قدرته على التمسك بالحياة.

نُحدّث المناهج، نُلوّن الشعارات، نبني المباني، لكننا لم نقترب حتى الآن من جوهر أزمة تعليمنا، فالعقول السعودية ما زالت تُدرَّب على الحفظ لا على الفهم، وعلى الطاعة العمياء لا على التساؤل، وعلى التلقين لا على التفكير الحر.

يقول الفيلسوف البرازيلي باولو فريري في كتابه تعليم المقهورين:

“في التعليم البنكي، يُعامَل الطلاب كأوعيةٍ فارغة يملؤها المعلّم بما شاء من معارف، دون أن يُسمح لهم بالمشاركة في إنتاجها ”.

وهذا تماما ما يحدث في كثيرٍ من فصولنا الدراسية: المعلّم يُملي، والطالب يُدوّن، والاختبار يُقاس بالكمّ لا بالكيف، فتحوّل تعليمنا، رغم أنوفنا، إلى نظامٍ مصرفي: “إيداع في الصباح، وسحب في نهاية الفصل الدراسي”.

ويقول أيضا فريري:

“في هذا النوع من التعليم تُقتَل الروح، لأن التعليم يصبح تدريبا على التكرار لا على التفكير ”.

تلك العبارة، لو تُرجمت إلى واقعنا، لكانت شعارا لآلاف الحصص التي تبدأ وتنتهي دون أن تهزّ عقلا أو تزرع في أذهان طلابنا سؤالا واحدا له قيمة تُذكر.

نحن لا زلنا نُخرّج طلابا يحفظون تعريف “التفكير” لكنهم لا يُمارسونه، وندرسهم عن “رؤية 2030” و”الابتكار”، ولا نسمح لهم أن يختلفوا معنا في تفسير بيت شعرٍ أو مناقشة فكرة في كتاب. هذا، بصراحة، ليس تعليما، بل ترويض للعقول.

في فلسفة فريري، المعلّم ليس له سلطة على الطالب، بل شريك في وعيه وتفكيره، لكن في واقعنا، لا يزال بعض المعلمين يعيشون بعقلية “الآمر والمأمور”، والطالب عندهم جنديٌّ في طابور صباحي: ممنوع عليه أن يرفع يده أو صوته، أو أن يسأل “لماذا”، أو يقول “لم أفهم”، وتتحوّل الحصص كلها إلى ساحات لاستعراض السلطة، لا مساحات لرعاية العقول والموهبة والمعرفة.

في مدارسنا، يُقاس المعلّم بعدد أوراق التحضير لا بعمق الأسئلة التي يثيرها، ويُقاس الطالب بدرجاته لا بمدى وعيه وإبداعه وقدرته على التغريد خارج السرب، وأنتجنا بذلك جيلا يطيع، ولكن لا يُفكّر.

يقول باولو فريري:

كل نظام تعليمي هو نظام تحكّمي، فإمّا أن نكرّس لنظام هذا التحكم القائم أو نفتح آفاقا جديدة. فهل تعليمنا اليوم يُحرّر، أم يُكرّس للمألوف والمكتوب سلفا؟

فريري، للمعلومية، لم يكن يقصد بـ”المقهورين” الطبقة الفقيرة فقط، بل فقراءَ الوعي والتفكير. وفي مدارسنا نجد هذا القهر في العقول التي تخاف من السؤال، وفي الطلاب الذين يعتبرون الخطأ عيبًا لا فرصة للتعلّم، ويبحثون عن “نموذج الإجابة الصحيحة” بدل أن يبحثوا عن الحقيقة.

وفي قاعاتنا الجامعية، لا يزال كثير من الطلاب يتعاملون مع الأساتذة كسلطة مطلقة، لا كشركاء في التفكير. وفي المقابل، هناك أساتذة ما زالوا يعتبرون المعرفة ملكية خاصة لا تُمنح إلا لمن هو مدرج في الهيكل الأكاديمي. كلا الطرفين يعيش حالة قهر معرفي متبادل: الطالب يخاف من الأستاذ، والأستاذ يفرض ما يريد، والنظام التعليمي يراقب من بعيد — والنتيجة: عقول مكسورة الجناح.

يقول فريري:

“الحوار ليس وسيلة تربوية، بل هو عملية وجودية”، ولهذا نحن بحاجة إلى انتفاضة فكرية داخل الصفوف. نحتاج إلى معلّم يجلس مع طلابه لا أمامهم، إلى نظام تعليمي يُكافئ الجرأة الفكرية لا سرعة الحفظ، وإلى مناهج تُعلّم الطفل أن يختلف مع معلمه منذ نعومة أظافره دون أن يُعاقَب، وأن يُجادل دون أن يُتَّهم، وأن يُفكّر خارج الصندوق دون أن يُصنَّف في أي فئة. فالتعليم الذي يخاف من الأسئلة تعليمٌ جبان، والأمة التي تُخرّج جبناء في التفكير ستُنتج تابعين لا روّادا ، ولن تُبنى حضارة إلا بعقولٍ جريئة تتحدى المألوف وتحوّل الأحلام إلى واقع ملموس.

التحرّر الذي يقصده فريري ليس التمرّد على الدولة أو القيم، بل التحرّر من الجمود الفكري والخوف العقلي، فحين يتعلّم الطالب أن يقرأ الواقع بعقله لا بعين معلمه، يبدأ العمل التربوي الملموس، وحين يفهم أن الخطأ جزءٌ من المعرفة، وأن الجهل ليس عارا ولا عيبا بل بداية الطريق، يتحوّل التعليم إلى مساحة حرية، لا شهادة معلّقة على الجدران.

لقد آن الأوان أن نكفّ عن بناء مدارس تُشبه الثكنات العسكرية، وأن نُعيد للصف عمقه الإنساني، أن نكفّ عن قياس “التفوق” بعدد الشهادات، وأن نقيسه بعدد الأفكار التي وُلدت داخل الفصل، أن نكفّ عن تأليه المناهج، وأن نُقدّس الإنسان الذي يفهمها بعمق ويضيف إليها معاني جديدة.

يقول باولو فريري: “لا يتحرّر الإنسان إلا حين يكون قادرا على النقد.” فهل يخرج طلابنا من مدارسهم وهم يشعرون أنهم قادرون على النقد، أم يخرجون وهم مقتنعون بأن لا شيء يمكن نقده أصلا؟

التحدي الأكبر أمام وزارة التعليم في المملكة اليوم ليس في بناء مدارس جديدة، بل في بناء ثقافة تعليمية جديدة؛ ثقافة تُعيد للصفوف روحها، وللمعرفة معناها، وللعقول حريتها. لقد استثمرت الدولة مليارات الدولارات في تطوير التعليم، لكن التطوير الحقيقي يبدأ حين تتحوّل الصفوف الدراسية في جميع المراحل التعليمية إلى مختبرات للوعي والتفكير، لا إلى غرف لتعليم الطاعة العمياء.

حين نُعلّم أبناءنا أن يخطئوا بشجاعة، وأن يتناقشوا باحترام، وأن يفكروا وينتقدوا بلا خوف — عندها فقط نكون قد بدأنا بالفعل مرحلة تعليمية جديدة.

باولو فريري لم يكتب كتابا في التربية، بل كتب صرخة في حرية الإنسان ووجوده، وفي السعودية، لا نحتاج إلى أن نُقلّده في جميع أفكاره، بل إلى أن نفهم جوهر فكرته: أن التعليم الحق لا يُلقَّن، بل يُستَمدّ من التجربة والمعرفة، وأن الاستقلال الفكري لا يُمنح، بل يُكتسب بالفهم العميق والممارسة اليومية.

لقد آن الأوان أن ننتقل من التعليم الذي يُنادي بالتلقين والتقليد والطاعة العمياء إلى التعليم الذي يُوقظ السؤال في أبنائنا، من التعليم الذي يخاف من الخطأ إلى التعليم الذي يراه بداية الطريق، ومن التعليم الذي يُعدّ للوظائف الحكومية إلى التعليم الذي يُعدّ للحياة.

فحين يصبح التعليم بهذا الشكل، لن نحتاج إلى الخوف على مستقبلهم، لأنهم هم من سيصنعونه، بعقولٍ تفكّر، وألسنٍ تقول: “لا” حين يتطلب الأمر أن يقولوا لا.

وقول “لا” لا ينبغي أن نعتبره تمرّدا، بل شعورا بالمسؤولية، ففي مجتمعٍ تربّى طويلا على الامتثال المطلق والتلقين والتقليد والطاعة العمياء، أصبح السؤال جريمة، والاختلاف خرقا للنظام العام، والتفكير الزائد كسرا لقواعد التعليم. وهنا بالضبط تكمن أزمة المنظومة التعليمية؛ فالتعليم الذي يخشى العقول المستقلة هو تعليم يُدرّب على الانقياد لا على الاختلاف، ويُربّي على التلقين والتقليد لا على الابتكار والنقد البناء.

إن أخطر ما يمكن أن يصيب التعليم ليس الفشل في التحصيل العلمي، بل الخضوع الفكري. حين يُصبح الطالب متفوقا في الدرجات وفاشلا في التفكير، يُطيع دون أن يُفكّر، وينتظر الأوامر بدل أن يصنع القرار، ويعيش داخل حدود مفروضة عليه.

عندها، نكون قد صنعنا إنسانا يمارس الحذر حتى في أحلامه، لا إنسانا يتحرر من قيوده المفروضة على عقله وروحه.

وهذا هو ما تحدّث عنه باولو فريري: إنسان يعرف كل شيء إلا نفسه، يملأ دفاتره بالمعرفة، ويترك عقله فارغا من الفهم والتفكير.

لقد آن الأوان أن نعيد تعريف كلمة “نجاح”، فليس النجاح أن ينجح الطالب في اختبارٍ ممل يركز على الحفظ ويُعزز التلقين، بل النجاح أن ينجح في اختبار كيف يفكر، وكيف يحاور، وكيف يختلف من دون أن ينهار، أن يصنع فكرة واحدة جديدة، لا أن يكرّر ألف فكرةٍ قديمة، وأن يكون واثقا من رأيه، لا تابعا لآراء الآخرين.

إنَّ التعليم الذي لا يُحرّك الضمير ولا يُثير الفضول، هو شكلٌ من أشكال الإهانة للعقل؛ فالمدارس ليست مصانعَ للوظائف، بل معاملَ لتشكيل الوعي، وما لم ندرك أنَّ كلَّ صفّ هو معركةٌ صغيرةٌ بين الخوفِ والشجاعة، فلن نتقدّم خطوة واحدة.

والتعليمُ ليس مشروعاتٍ كبرى ولا مبانٍ حديثة، بل هو مشروع للفكر والنقد البناء، يسعى إلى بناء عقولٍ حرةٍ قادرة على السؤال والتحليل، وتحرير عقول الطلاب من الجمود الفكري، ليصبح التعليم مساحة للإبداع والتفكير المستقل، لا مجرد حفظٍ للمناهج التي غالبا ما تكون امتدادا لما كنا عليه في زمن الكتاتيب.

يمكننا أن تُنفق المليارات على التطوير، لكننا إن لم نزرع في المعلّم أهميّةَ السؤال، وفي الطالب شجاعةَ البحث، فسنظلّ ندور في حلقةٍ من “التحسينات الشكلية للتعليم”.

ولذلك، فإنّ النهضة التعليمية الحقيقية لا تبدأ من الوزارة، بل من الفصل، من المعلّم، من اللحظة التي يقرّر فيها طالب صغير أن يسأل: “لماذا؟” — ولا أحد يُسكَت صوته أبدًا من المعلمين.

وهذا بالضبط ما نحتاج أن نتعلمه نحن: كيف نكون مستقلين فكريا ونحن ندرس، ونحن نعلّم، ونحن نفكر.

أن نتعلم أن الاستقلال الفكري ليس شعارا وطنيا نردده في الطابور الصباحي، بل سلوكٌ يُمارس كل يوم داخل الصفوف بدون خوف وبشكل طبيعي.

حين يتعلّم الطفلُ السعودي أن يقول: “سأجيب بطريقةٍ مختلفة”، بدلا من أن يسأل: “أين أجد الإجابة الصحيحة؟”، عندها فقط نكون قد بدأنا التحوّل الجوهري من تعليمٍ يُقيّد العقول إلى تعليمٍ يُحرّرها.

وحين تتحوّل مدارسنا إلى مساحاتٍ تزرع الشجاعة لا الخوف، والفكر لا الترديد، عندها سنرى جيلا لا يُصفّق للتفاهات، بل يرفضها بعقلٍ ناضجٍ وقوةٍ واثقة.

جيلا لا يخاف من أن يقول رأيه بكل صراحة، ولا يخاف من أن يُخطئ، لأن الخطأ جزء من عملية الفهم العميق، لا وصمة عار يُعاقب عليها المعلم و المدير و وزارة التعليم.

هذا هو التعليم الذي نحتاج إليه، تعليمٌ يُربّي في أبنائنا القدرة على السؤال قبل الإجابة، والشجاعة قبل النجاح، والفكر النظيف قبل الحصول على تقديرٍ ممتاز.

فالأمم التي سبقتنا لم تُبنَ بالعقول المطيعة، بل بالعقول المتسائلة التي تجرؤ على أن تفكّر في كل وقتٍ بطريقةٍ مختلفة، وإلا أصبحنا، كالسابقين، نُعيد إنتاج الدجاج والعقول مكسورة الجناح.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى