كُتاب الرأي

عقول مشتتة وعقول مبدعة

محمد الفريدي

عقول مشتتة وعقول مبدعة

الإنسان لا يسعى وراء الملذات المادية فحسب، بل يمتلك لذة الفهم التي تدفعه لاستكشاف الفكر والتوسع في المعرفة. وقد مكّنتنا لغتنا العربية، ولله الحمد، من تجاوز حدود التجربة المباشرة إلى آفاق أوسع من الإدراك والتحليل.

ورغم هذه الإمكانيات، يقع الكثيرون في فخ التخصص الضيق، وينغلقون على مجالاتهم المهنية، فيحرمون أنفسهم من متعة التوسع الفكري والانفتاح على عوالم جديدة.

التوسع المعرفي يعزز الأفق الفكري، ويزيد من مرونة التفكير، ويمنح الإنسان القدرة على التأمل والتحليل العميق، والتحليق في سماء الإبداع. وكثير من الكتّاب الغربيين والسعوديين المبدعين هم في الأصل أصحاب تخصصات ومهن لا علاقة لها بالكتابة والأدب، ومع ذلك، استفادوا من هذا التوسع المعرفي في إثراء أعمالهم.

غازي القصيبي، مثلا، شغل مناصب وزارية ودبلوماسية، وترك إرثا أدبيا متنوعا في الشعر والنثر والرواية رغم تخصصه السياسي.

أما حمود أبو طالب، فهو طبيب أصبح كاتبا صحفيا دمج معرفته الطبية في عمله الإعلامي ليؤثر ثقافيا وإعلاميا محليا ودوليا .

كذلك، محمد الرطيان، أديب وصحفي لم يحمل شهادة أكاديمية، لكنه أثبت أن الإبداع لا يرتبط بالتعليم الرسمي، بل بالموهبة والخبرة والمعرفة المكتسبة. وأما أسعد عبدالكريم الفريح، فقد شغل منصب مدير الأمن العام برتبة فريق، وأثبت من خلال أعماله الأدبية والشعرية قدرته على التعبير عن المجتمع السعودي بأسلوب أدبي رفيع.

لقد ساعد هذا التوسع المعرفي هؤلاء الكتّاب على تعزيز إبداعهم، فغازي القصيبي جمع بين السياسة والأدب، وحمود أبو طالب دمج الطب والإعلام معا، فصاغ أجمل المقالات الأدبية، بينما أظهر محمد الرطيان قدرة استثنائية على التحليل والنقد رغم غياب الشهادات الأكاديمية.

في حين أسهم أسعد عبدالكريم الفريح في إثراء الثقافة السعودية بتنوعه الأدبي الذي عكس خبرته العسكرية.

بالمجمل، فتح التوسع المعرفي أمام هؤلاء الكتّاب أبوابا للإبداع، والتحليل العميق، والتفاعل الثقافي المتنوع، مما جعلهم يبرزون ويتفوقون في الساحة الأدبية والفكرية والثقافية.

الثقافة العامة ضرورة، فهي تعزز وعينا، وتنمي تفكيرنا، وتمنحنا أسمى اللذات: لذة الفهم والذكاء، اللتين تمنحاننا التجربة المستمرة والرؤية الأوسع للحياة، وتحرراننا من ضيق الأفق والأفكار المحدودة إلى آفاق لا حدود لها من الإبداع.

إن التخصص مهم جدا، ولكنه لا يكفي لصناعة عقل متكامل.

فالمعرفة المتنوعة تفتح آفاق الفهم، وتربط بين العلوم والفنون والمهن والمجتمع، وتعزز الحس الإنساني، وتمنعنا من تكرار الأخطاء.

كما أن التوسع المعرفي يحررنا من التقوقع، ويعلمنا أساليب التفكير الشامل، ويتيح للإبداع والتجديد أن يزدهرا.

والمملكة اليوم بحاجة إلى عقول متفتحة تربط المعرفة بالواقع، والعلوم بالفلسفة، والتكنولوجيا بالإنسانية، لنعمق فهمنا بالحياة، ونواجه مشكلات عصرنا بوعي واتزان.

فأجمل ما في المعرفة أنها لا تنتهي، فكلما توسعنا فيها، اكتشفنا المزيد، وهذه هي اللذة الحقيقية التي تضفي على الحياة معناها الأجمل.

في عالم اليوم، التخصص لا يكفي، فتنوع المعرفة يعزز الإبداع والمرونة.

فالطبيب الذي يفهم الفنون يصبح أكثر حساسية، والمهندس الذي يدرس الفلسفة يطور النقد بشكل مختلف، والعالم الذي يقرأ الأدب يعبر عن علمه بوضوح وجمال.

وأعظم مكافأة للتوسع المعرفي هي شعورنا الدائم بالنمو، فمعرفتنا تزيدنا عمقا مع الزمن، وحياتنا تصبح أكثر ثراءً، وتجاربنا أكثر معنى.

ورغم الإمكانيات الهائلة التي توفرها المعرفة، فإن الكثير منا ما زالوا يقعون في فخ التخصص الضيق والانغلاق على الذات.

هذا الانغلاق يعكس افتقارنا لرؤية أوسع وأفق أعمق، ويحد من إبداعنا وتفكيرنا الحر الذي يعزز تطورنا.

ولهذا، نلاحظ أن هناك ميلا نحو التمسك بتخصصات ضيقة دون البحث عن المعرفة العامة التي توسع دائرة الفهم، وتفتح آفاقا جديدة من الرؤية.

على العكس من ذلك، شعوب أخرى حققت تقدما كبيرا في هذا المجال، فالعلماء في الدول المتقدمة لا يتقوقعون داخل مجالاتهم المهنية، بل يتجاوزون حدود تخصصاتهم ليكتسبوا معرفة متنوعة تغنيهم في مختلف الجوانب الحياتية والفكرية، والثقافة العامة لديهم تعزز فهمهم لمجتمعهم، وتنمي قدرتهم على الابتكار.

التخصص في حد ذاته ليس عيبا، ولكن المشكلة تكمن في الاستغراق فيه إلى درجة تُقيد الفكر، وتمنع التفكير الشمولي، وهذا ما يجعلنا في وضع تنافسي متأخر مقارنة بالأمم الأخرى التي تربط، مثلا، العلوم بالتكنولوجيا والفلسفة بالإنسانية، مما يتيح لها التعامل بمرونة أكبر مع تحديات العصر.

فالأمة التي تقتصر معرفتها على تخصصات ضيقة تعجز عن التفاعل مع واقعها ورؤية الروابط بين المجالات المختلفة كافة.

لذا، نحتاج إلى تعزيز ثقافتنا العامة، وتوسيع أفقنا الفكري، وتعزيز إبداعنا، ودعم تقدمنا المعرفي.

التوسع المعرفي باختصار هو عملية مستمرة تبني عقلا قادرا على التأقلم مع المتغيرات.

ونحن بحاجة إلى تجاوز الأنماط التقليدية في التعليم، وتعزيز التعلم المستمر والمتعدد الأبعاد، الذي يساعدنا على مواجهة التحديات بوعي أكبر.

بعض المجتمعات نجحت في بناء أجيال قادرة على التفكير والتحليل من خلال التعليم المتنوع الذي يربط بين التخصصات، فعززت الإبداع، وساعدت الأفراد في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية بفاعلية.

أما نحن، فالتخصص الأكاديمي أولوية كبيرة، حدَّ من توسع أفقنا ومرونة تفكيرنا، وإذا استمررنا في هذا الاتجاه، سنظل بعيدين عن اللحاق بالأمم التي ربطت المعرفة بالتقدم المعرفي والمهني والتكنولوجي.

ولكي نحقق المنافسة والابتكار، علينا إعادة التفكير في إستراتيجيات تعليمنا، والتركيز على توسعنا المعرفي الذي يشمل مختلف المجالات، وأن يكون تعليمنا أداة لتحرير عقولنا وتنمية فهمنا العميق، الذي يفتح آفاقنا المظلمة، ويحقق لنا التقدم والازدهار.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

تعليق واحد

  1. طرحك أستاذ محمد يسلط الضوء على نقطة جوهرية: التوسع المعرفي ليس ترفًا، بل ضرورة لصقل الفكر وتعزيز الإبداع. الاقتصار على التخصص وحده قد يُقيّد الرؤية، بينما التنوع المعرفي يمنح الإنسان أفقًا أوسع وقدرة على التحليل والتأثير في مختلف المجالات.
    النماذج التي ذكرتها تثبت أن الإبداع لا يتطلب التخصص الأكاديمي بقدر ما يحتاج إلى شغف بالمعرفة ومرونة فكرية. فحين ينفتح الإنسان على مجالات متعددة، يصبح أكثر قدرة على رؤية الروابط بين العلوم والفنون والمجتمع، مما يجعله أكثر تأثيرًا وإنتاجًا. مجتمعنا اليوم بحاجة إلى هذه العقلية المتجددة التي تجمع بين التخصص والتوسع المعرفي لصياغة مستقبل أكثر ابتكارًا ووعيًا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى