كُتاب الرأي

“عقول ما فيه “.. وحناجر فارغة

محمد الفريدي

 

“عقول ما فيه “.. وحناجر فارغة

لي صديق يقول: عشت أكثر من عقدين في بريطانيا. لم تكن حياتي هناك مجرد تجربة عابرة، ولا محطة مؤقتة للبحث عن فرص أفضل، بل كانت رحلة بحث في دهاليز الذات، ومعايشة صادقة لأرواح متعبة، تحمل أوطانها على أكتافها أينما حلّت و أينما ارتحلت.

تجوّلت بين جحور بريطانيا الضيقة وساحاتها المفتوحة، وفي كل زاوية كنت ألتقي بطيف عربي مختلف في ملامحه، مكرّر في صوته ووهمه وصراخه الخارج من أعماق خيبته المزيّنة بشعارات أمجاده الغابرة.

كنت أراقب تلك الوجوه القابعة بين التبجّح والانكسار، بين الكبرياء المكسور والأمل المشروخ.

وجوه السوريين واللبنانيين، والسودانيين والمصريين، والليبيين والخليجيين، والصوماليين والمغاربة والجزائريين، والعراقيين والأردنيين والفلسطينيين … وجوه تنطق بلسان واحد:

“نحن خير الأمم على وجه الأرض، وخير أمة أخرجت للناس، وشعوبنا سيدة شعوب هذا الكون بأسره”.

لكنهم في واقع الأمر، يعيشون مكسورين على أبواب سفارات اللجوء، تائهين في طوابير الإقامات، حائرين في متاهات الهوية والانتماء.

خطابهم واحد، وأسطوانتهم المشروخة تتكرر كما لو أنها نُقشت على جدران عقولنا منذ قرون.

نحمّل الغرب “الكافر” كل خيباتنا، ونتهمه بالتآمر علينا، ونغرق في نظريات المؤامرة والماسونية العالمية والإمبريالية، وكأننا نغسل أيدينا من مسؤولية هذا التخلف والانهيار على جميع الأصعدة والمستويات.

لم أجد أحدا يعترف بأن المشكلة فينا، في عقولنا، في ثقافتنا التي ما زالت تعيش في قوقعة الماضي وتأبى مواجهة الحاضر والحقيقة المرة.

الليبي يتحدث عن “عمق العروبة”، والسوري عن “زمن الفتوحات”، والسوداني عن “سلة غذاء العالم”، واليمني عن “أول من آمن بالرسالة”، والمصري عن “أم الدنيا”، والجزائري عن “غازه الذي يحرك الكواكب ولا ينضب”، والصومالي عن “القرصنة البحرية”، والعراقي والأردني والفلسطيني عن “تعليم السعوديين القراءة والكتابة”.

خرافات تتكرر، وأقوال فارغة تتناقلها الألسن كأنها مسلّمات، في الوقت الذي تتفتت فيه أوطانهم، وتعاني شعوبهم من الفقر والجهل والاستبداد والعنف والحروب والانقلابات.

يتحدثون عن عظَمة مزعومة، وهم عاجزون عن بناء نظام صرف صحي في حيّ صغير، أو حماية شجرة من الاحتطاب الجائر.

هؤلاء الهاربون من جحيم أوطانهم، لا يزالون يتفاخرون بها، ويعيشون في الغرب الذي يلعنونه صباح مساء، ويأكلون من خيراته، ويستمتعون بحرياته، دون أن يتوقفوا لحظة واحدة عن شتمه.

ينتقدون “انحلاله الأخلاقي”، ويرسلون أبناءهم إلى مدارسه وجامعاته، يتذمرون من معاملته، ويستفيدون من رعايته الصحية وضمانه الاجتماعي.

هذا التناقض لا ينبع من جهل، بل من أزمة هوية عميقة.

العربي – في الغرب كما في بلده – يعيش في الماضي، ويرفض الاعتراف بتخلفه عن ركب الحضارة.

لا يريد أن يصدق أن تفوق الغرب جاء نتيجة العمل الجاد ، لا المؤامرة؛ والإنجاز، لا الخرافة.

بل يصرّ على رؤية العالم من خلال مرآة مشروخة، تُظهر له ذاته عظيمة وهو في واقع الأمر في الحضيض، وتُقزّم الآخرين وهم يعتلون قمم التقدّم والإنجاز.

الغربي يعمل بصمت، يزرع ويصنع ويبني ويطلق الأقمار الصناعية.

أما العربي، فلا يزال يتغنى بالفتوحات الإسلامية، ويتباهى بخطب الجمع النارية.

يعيش في عالم فانتازي مضحك، كأنه بطل في مسلسل كرتوني لا يتوقف الناس عن الضحك عليه، يتعامل مع الواقع وكأنه مزحة ثقيلة، لا يعترف بالحقائق إلا إذا صفعته بقوة، ثم يعود لينكرها وكأن شيئا لم يكن.

نحب التبجّح، أصواتنا تزلزل الجبال، وهمّتنا مدفونة تحت الرمال.

نبدع في التنظير، ونفشل في التنفيذ.

نبكي على ماضينا التليد، ونحن عاجزون حتى عن تنظيف أحيائنا من مخلفات البناء.

نطالب بوقف الحروب، ونشعلها في بلداننا وبيوتنا.

نصرخ ضد العنصرية، ونمارسها في الشارع والمدرسة والمسجد.

هل هذه قسوة؟ ربما. لكنها الحقيقة العارية التي نرفض النظر إليها.

الغربة كانت مرآتنا المكسورة، لكنها كانت صادقة، أظهرت لنا أننا نعيش وهما جماعيا.

نغني للوطن ونحن من يحرقه، ونمدح الحضارة الإسلامية ونحن من يعاديها، نشتم الغرب ونحن من يتسوّل مخترعاته وتقنياته.

ويبقى السؤال: هل نستمر في العيش في هذا الوهم، أم أننا مستعدون أخيرا لمواجهة الحقيقة والتغيير؟

قال لي صديقي ذات مرة: كنت جالسا في مقهى بلندن، فإذا بشاب عربي يتحدث مع صديقه بالعربية عن “خيانة الغرب” و”احتقارهم لنا”، ثم يطلب القهوة من النادل “بسعر الطالب”، ويدفع بنصف ابتسامة، ثم يبشّر النادل الذي لا يفهم العربية بأن “الخلافة قادمة”!

نظرت إليه وفكرت: كيف ستأتي الخلافة على يد هذا الطالب الأجوف الذي لا يحترم نظام البلد الذي يعيش فيه، ولا النادل الذي جاء ليخدمه؟

“عقول ما فيه” … عبارة تلخص كل شيء.

عقول غائبة، منهكة، معتقلة خلف قضبان الكبرياء الفارغ.

نعيش في القرن الحادي والعشرين بعقلية القرون الوسطى.

نخاف من التجديد، ونرتعب من النقد، نحارب كل من يحاول إيقاظ النائمين فينا، ونغضب ممن يقول لنا الحقيقة.

لو استخدمنا نصف الوقت الذي نقضيه في اختلاق الأكاذيب والأعذار، لبنينا واقعا أفضل.

لو واجهنا أنفسنا بشجاعة، لنهضنا من كبواتنا في كل مرة.

لكننا لا نزال نرفض الاعتراف بأننا المشكلة، وأننا السبب.

إن استمرارنا في الهروب من الحقيقة يعمق جراحنا، ويؤخر لحظة التغيير التي نحتاجها بشدة.

الوطن ليس أناشيد وطنية، ولا خطب عصماء، ولا قصائد حماسية.

الوطن مشروع بناء، مشروع تربية، مشروع عقول.

والغربة لن تكون حلا إن لم نحمل معنا وعينا، بدلا من خرافاتنا وأساطيرنا، فالوطن الحقيقي ليس رقعة على الخريطة، بل هو الطريقة التي نفكر بها ونرى بها أنفسنا والعالم من حولنا.

مقالي هذا ليس جلدا للذات بقدر ما هو محاولة صادقة لقرع الجرس.

نحن أمة تستطيع أن تنهض، لكنها تحتاج أولا أن تتواضع، أن تعترف، أن تبدأ من الصفر، أن تنفض عن عقلها غبار الأساطير.

عندها فقط، يمكن أن نكتب فصلا جديدا لا يبدأ بـ ” كنا وكنا “، بل بـ” ها نحن كما ترى “.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫3 تعليقات

  1. رائع ي ابو سلطان بهذا المقال الجميل ، تحدثت فيه وكأنك تعيش بين ظهرانيهم ، لقد ابدعت ، ولا عطر بعد عروس كما يقال ، نعم لقد شاهدتهم في الكثير من العواصم الغربية ، وهم يرددون اسطوانتهم المشروخة في كل ماذهبت له في مقالك ، نحمدالله اننا كسعوديين قد نختلف عنهم ولو بنسبة كبيرة ، فلم أشاهد سعودياً هناك يحاول ان يطول بقائه ، بل تجد الجميع يسارعون في العودة للوطن الام التي لم تترك ابنائها في الخارج فريسة للمقادير ،،،دمت لمحبك ابا سلطان ،،،

  2. كما عودتنا دائماً أستاذ محمد، مقال رائع ويناقش قضية عربية وإسلامية مهمة. أتفق معك، تعيش بعض الشعوب العربية والإسلامية (غالباً من مصر، العراق، دول الشام، بعض دول المغرب العربي، السودان، إيران، نيجيريا) حالة من الإنكار والازدواجية والفوضى الفكرية. كما ذكرت، يقولون نحن خير أمة أخرجت للناس ولكنهم قد يكونون من أجهل الأمم التي تعيش على كوكب الأرض في هذا الزمن، ونحن أحفاد من صنع الفتوحات الإسلامية العظيمة، ولكنهم عانوا من الكثير من الهزائم والاستعمار على يد الدول الإمبريالية الغربية ويعيشون عالةً عليها، ونحن ديننا دين العدل والأمانة ولكنها شعوب قسمتها الصراعات الطائفية والدينية وانهكتها السرقات والاختلاسات المالية. والسؤال المهم هو من المسؤول عن كل ذلك الجهل والتخلف وكل تلك الفوضى الفكرية في تلك الشعوب؟ كما نعلم، الشعوب على دين ملوكها، وفي نظري، المسؤول الأول عن مآسي تلك الدول العربية والإسلامية، هو فساد الحكومات ومؤسساتها وفشلها الذريع. ولبعض علماء الدين والمفكرين والمثقفين العرب والمسلمين في تلك الدول أيضاً دور سلبي في مجتمعاتهم ابتعد عن التنوير وفضل الصمت أو لجأ إلى استخدام العنف ورفع السلاح أو انشغل بتمجيد السلطة الفاسدة. كما أن لإسرائيل وبعض الدول الغربية دور خبيث، لا يمكن إنكاره، في إضعاف وتقسيم دول العالم العربي والإسلامي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
الذهاب إلى الواتساب
1
م حبا أنا سكرتير رئيس التحرير
مرحبًا أنا سكرتير رئيس التحرير وأنا هنا لمساعدتك.