كُتاب الرأي

عقول قيد الإنشاء!

عقول قيد الإنشاء!

بهجه أحمد 

ردًا على مقال رئيس التحرير أ. محمد الفريدي لتوسيع الفكرة
يالجمال هذا الطرح أ. محمد
وياللجرأة التي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى.
فالحديث عن التعليم لا يعني أبداً تعليق المشانق للمعلم أو إلصاق التهمة بالكادر الإداري، بل يعني وضع المنظومة على طاولة التشريح بنية العلاج لا الإدانة.
 
من يراقب التعليم من خارج الإطار الرسمي يدرك أن التطوير ما زال يتحرك على السطح: مناهج تُحدَّث، مبانٍ تُجهَّز، وشعارات تُلمَّع. لكن السؤال: هل لامسنا عقلية المتعلّم؟ هل أدركنا أن أي تطوير لا يبدأ من الوعي الداخلي يظل بناءً بلا أساس؟
 
نحن لا ننكر حجم الجهود المبذولة في المدارس، فثمّة جهود جبارة وواضحة يُقدمها المعلم، والتزامات كثيرة يُكابدها الطالب، ومنظومة تسعى للحاق بركب التحول. لكن هذه الجهود – كما تفضلت – تُستهلك بعيدًا عن النتائج المرجوة، وتُترجم على شكل نجاحات مادية ومخرجات رقمية، بدلاً من أن تُستثمر في بناء وعي وفكر وقدرة على السؤال والإبداع.
 
إن التطوير الحقيقي لن يتحقق بتغيير الكتب فقط، بل بتغيير الذهنية التي تتعامل معها. فالمعلم نفسه يحتاج إلى تحرير عقله من إرث السلطة والتلقين، كما يحتاج الطالب إلى مساحة يُخطئ فيها ويتعلم، لا يُصفَّق له لأنه كرّر الإجابة النموذجية.
 
وحين نتأمل الطفل في سنواته الأولى، ندرك أن الاستثمار في العقل لا يبدأ من الفصول بل من البيوت. الأسرة ليست جهة موازية للتعليم بل شريك تأسيسي فيه، وشراكة الأسرة هنا لا تعني أن تتحول إلى معلم بديل، بل أن تمهّد للعقل أرضاً صالحة ليُبنى عليها التعليم. فالعقل الذي لم يُربَّ على القيم لن يُنضجَه المنهج، ولو كان بأعلى المعايير. وخذ مثلاً قيمة الالتزام: ديننا الإسلامي غرَسها فينا عبر مواقيت العبادة، وربط الزمن بالفعل، والسلوك بالمسؤولية. هذه هي البذرة الأولى لأي تعليم ناضج.
 
القيم ليست زينة أخلاقية تُعلّق في جدار المدرسة، بل هي التربة التي تُزرع فيها العقول. وإذا فقدنا التربة، فلن تنفعنا أساليب التدريس الحديثة، ولا الفصول الذكية، ولا المؤشرات اللامعة.
 
واحترام عقلية الطالب يبدأ من الإيمان بأنه ليس متلقياً ساذجاً ولا نسخة مصغّرة من المعلم، بل كيان كامل يملك قدرة على المقارنة والتحليل وابتكار الحلول لو لم نُحاصر عقله بالخوف من الخطأ أو قداسة المحتوى. الطالب الذي يُسمَح له أن يفكّر، سيختلف ويقترح وينتج، أما الذي يُعاد تشكيله وفق “النموذج” فلن يرى أبعد من هامش الصفحة.
 
الطالب ليس صفحة بيضاء تُكتب وتُمحى، لكنه عقل قادر على إنتاج معنى إذا أُعطي فرصة، وبيئة، وحرية، ومعلماً يرى نفسه شريكاً لا مُسيطراً.
 
إن إعادة هندسة التعليم تبدأ من إعادة احترام الإنسان الذي يتلقاه ويمنحه. لأن العقول لا تُكسر إلا حين تُرغم على الصمت، ولا تُحلّق إلا حين يُمنَح لها فضاء التفكير لا قفص التوجيه.
 
ولأن المعلم هو البوابة الأولى لعبور الفكرة، فإن أثره يمتد أبعد من الحصة والكتاب والدرجة. المعلم الذي يؤمن بقدرة العقل على الإبداع يوقظ في طلابه أسئلة، ويحرّض خيالهم، ويتيح لهم نوافذ يتجاوزون بها جدران المقرر. أما حين يُختزل دوره في التنفيذ والرقابة، فإنه يفقد أخطر ما يملكه: صناعة إنسان مفكّر لا مقلّد.
 
العقل البشري طاقة هائلة على الابتكار وإعادة تشكيل الواقع، وليس مجرد وعاء يُملأ. وعندما نمنحه حق التفكير لا واجب الحفظ، يصبح قادراً على إنتاج فكرة، وبراءة اختراع، ومشروع يغيّر المشهد لا يعيد نسخه.
 
وهنا تأتي مسؤوليتنا كمجتمع كامل — أسرة، مدرسة، جامعة، إعلام، وسياسات — أن نساند هذه العملية لا أن نقف على الرصيف نراقبها. التعليم ليس وظيفة وزارة، بل مشروع وعي ووجود، وإذا لم نؤمن جميعاً بأن العقل هو الثروة الوطنية الأولى، فسنبقى نُخرّج طاقات معطّلة وأجنحة مكسورة تنتظر من يجبرها، بينما كانت هي خُلقت لتُحلّق.

كاتبة رأي

بهجه أحمد

كاتبة رأي وشاعرة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى