كُتاب الرأي
عقاب أم رعاية ؟

عقاب أم رعاية ؟
هل سبقَ لكَ أن سمعتَ شخصًا مُبتلىً يقولُ بوجع: “لماذا أنا يا الله؟ لماذا يحدث لي هذا؟”
الطريق إلى التنوير والوعي ليس طريقًا سهلاً، بل هو طريقٌ محفوفٌ بالمخاطر. طريقٌ تُصَفِّي فيه نفسَكَ لتصيرَ كالمرآةِ تعكسُ النورَ الذي بداخلك. بعضُ المواقفِ يمتدُّ ألمُها مدى الحياة، وقد يكونُ تطهيرًا لأرواحنا، وغفرانًا لذنوبنا، وسببًا لاستحقاق أشياءَ جميلةٍ ما كنا لنحصلَ عليها إلا بطهارةِ قلوبنا من ذنبٍ ما أو عيبٍ استوطنَ فيها.
إن الألمَ الجسديَّ أو النفسيَّ الذي نحسُّ به ما هو إلا كالنار التي تُصفِّي الذهبَ وتزيلُ عنه الشوائب. والقلبُ كالذهبِ الموجودِ في صورته الخام في الطبيعة، مخلوطًا ببعض الشوائب والمعادن الأخرى، التي لا يمكنُ تصفيته واستخلاصه بشكلٍ نقيٍّ إلا عن طريق النار. كذلك قلوبُنا وأنفسُنا، الممزوجة بهذه الحياة الدنيا، لا تُصَفَّى ولا ترتقي إلا بالمعاناة.
من أوائل التجارب وأقساها على الإطلاق التي يمرُّ بها الإنسانُ في مرحلةٍ مبكرةٍ من حياتِه هي مرحلةُ الفطام، حيثُ تفصلُ الأمُّ طفلَها الرضيعَ اللصيقَ بها، وبثديها وحجرها قسرًا. فأمُّه التي لا يرى في الدنيا غيرَها، والتي هي أمنُه وأمانُه، وغذاؤُه النفسيُّ والجسديُّ، وأحنُّ الناس عليه، تحرِمُه مادةَ حياتِه وغذاءَه الوحيد، وتحرمُه إلصاقَ وجهِه وخدِّه وفمِه بثديها، ليس قسوةً، بل حبًّا ورعايةً منها، حتى يبلغَ منتَهى نموِّه.
إنها تُوجِّهُه لطعامٍ آخرَ يتناسبُ مع نموِّه وتطورِه ومرحلتِه العمرية، فحليبُها أصبح قاصرًا عن تلبية احتياجاتِه. وهي تؤهِّلُه للأكل والشرب بما يخدمُ جسدَه ليعيشَ بصحةٍ، وينمو ويكبر. فما اعتاد عليه لم يعد صالحًا ولا مفيدًا له، مهما كانت حلاوتُه.
ومهما كان هذا الطفلُ متعلقًا به وبها، فإنها لا بد أن تفصلَه عن غذائِه الجسديِّ والعاطفي. لنَسْرَحْ بخيالنا قليلًا، ونضعَ أنفسَنا مكانَ هذا الطفل، ولنحاولْ أن نشعرَ بما يشعرُ به. وإن كنا قد مررنا فعلًا بهذه التجربةِ ولكننا نسينَاها، فتَصرُّفُ الأمِّ هنا رعايةٌ وحبٌّ مغلَّفان بالشدة، تأهيلًا للنموِّ والتطور في جميع جوانبه الجسدية والعقلية والنفسية.
فالناس عند الشدائد كطفل تعرض للفطام ،القسوة ظاهرة والرحمة باطنه .
وأنت كذلك، لا بد لكَ أن تتطورَ لتتناسبَ مع وضعِك القادمِ المغايرِ لما أنت عليه الآن. ومهما كان والداك وعائلتُك وقبيلتُك وحالتُك المادية، والدولةُ التي تعيش فيها – سواءً كانت غنيةً بالفرص أو معدومةً – فثِقْ ثقةً تامةً بأنها الأنسبُ لك، وأنها ما تحتاجُ إليه بالتحديد. وما يحدثُ لكَ من خلالها موجهٌ لتتشكَّلَ وتُؤهَّلَ لأداءِ رسالتِك في الحياة كما يريدها اللهُ لك. فالله اعلم واحكم منك ،
ومن الظلمِ لنفسِك أن تقارنَها بالآخرين، فلكلٍّ منا حكايةٌ ورسالةٌ تختلفُ عن الآخر. قد تكونُ عناوينُها العريضةُ مقدرةً مكتوبةً، ولكن تفاصيلَها الصغيرةَ متروكةٌ لنا بالخيار. فنحن مخيَّرون، كما أننا في بعض الأمور الكبيرة مُسيَّرون.
والله سبحانه لا يرسلُ لنا ما نرغبُ به من أشخاصٍ وأشياء، بل يعطينا ما نحتاجُ إليه، مهما بدتْ حاجتُك لما خسرتَه، فأنت واهمٌ. أنت تحتاجُ إلى أن تُطوِّرَ نفسَكَ من خلال هذا الفقدِ الذي جاء ليَخدمَكَ لا ليهدمَك.
كلُّ هذه الأشياء المؤلمة تُعِدُّك لتكونَ جاهزًا لاستقبال نِعَمِ اللهِ عليك وخيرِه وفضلِه.
بعضُ الأشخاص الذين أساؤوا إلينا في حياتنا لا نستطيعُ نسيانَ إساءاتِهم، نشعرُ بالكراهيةِ تجاهَهم وبالظلمِ الواقعِ منهم، ونشعرُ بالحزن. ولكن في حقيقة الأمر، هم لم يؤذونا إلا ونحن أهلٌ للأذية، إلا ونحن مستحقون لها استحقاقًا للتطور والنمو. فالألمُ هو بوابةُ العبور، وبدايةُ الطريق لنصبحَ أشخاصًا أكثرَ وعيًا ونضجًا، فتكونُ أنفسُنا نقيةً.
فالله عزَّ وجلَّ ليس بظلامٍ للعبيد، وكلُّ ما يحدثُ في الكونِ بحكمتِه وإرادتِه. وسنستمرُّ بالشعور بتلك المشاعر الرديئة وبالرثاء لأنفسنا في مواقفَ مختلفةٍ ومحطاتٍ عديدةٍ من حياتنا، حتى يتغيَّرَ مع كلِّ موقفٍ عسيرٍ شيءٌ بداخلنا. في أعماقنا شيءٌ هو الشائبةُ العالقةُ بقلوبنا، تلك القلوبُ التي استودعناها أفكارًا خاطئةً فاستقرتْ واستوطنتْ بفعل مشاعرَ رديئةٍ كانت لها السيطرةُ والغلبةُ على العقل، كالخوفِ والكبرِ والحسدِ والحرصِ والغيرةِ والحقدِ وغيرها، التي تشعلُ النيرانَ في قلوبنا ُ فنتألم ثم نتعلم ،
فعندما تتغيرُ هذه الأفكار، فإن هذا الألمَ سيتوقف، والحالَ سيتبدل. وذلك لأن لله عزَّ وجلَّ قانونًا كونيًّا في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
فاستمرارُ مشكلةٍ ما أو معاناةٍ ما مع شخصٍ أو وضعٍ معينٍ يدلُّ على أنه لم يحدثِ التغييرُ المطلوبُ في الداخل. فبمجرد أن تتغيرَ بعضُ الأفكار والمعتقدات الخاطئة، فإن بعضَ الأشخاصِ والأماكنِ والوظائفِ المتعبة ، والأمراضِ والمشاكلِ تختفي إلى الأبد.
دعني أفترضْ أنه مُقدرٌ لك أن تصبحَ ثريًّا في عمر الثلاثين، فمن المرجح أنك ستمرُّ بفتراتٍ من ضيقِ ذاتِ اليد، تفتحُ لك آفاقًا ومداركَ لتؤهِّلَكَ للثراء، ما كنتَ لتدركَها لولا تلك الضِّيقَة. ربما لو وصلتَ لعمرِ الثلاثين بلا تجاربَ قاسيةٍ في الرزق، وحصلتَ على ثروةٍ، لفقدتَها لقلةِ الخبرةِ في التعامل مع المال وافتقادِك للنضج.
إن المصائبَ والابتلاءاتِ والمشاكلَ هي أولُ الإشاراتِ لك بأن شيئًا عظيمًا يوشكُ أن يحدث. كما في حكمةِ أجدادنا القديمة التي تقول: “لا عِزَّ إلا بِنَقِيصَة”، بمعنى أنك لن تنالَ عزًّا إلا وتخسرَ شيئًا آخرَ في المقابل.
إن أعظمَ الانتصاراتِ والفتوحاتِ والبشائرِ لا تأتي إلا بعد معاركَ طاحنةٍ في الداخل. إن الاضطرابَ الداخليَّ والقلقَ والخوفَ في داخلك، وانهيارَ الأمورِ في الخارج من حولك – سواءً بخوفٍ أو موتٍ وفقدانٍ لمن تحب، أو بابِ رزقٍ يُغلَق، أو خسارةٍ فادحةٍ في مالِك – كلُّ هذه الأشياء ما هي إلا تحضيرٌ لك لتنتقلَ إلى مرحلةٍ أفضلَ روحانيًّا وجسديًّا.
كلُّ تلك الأشياء المؤلمة في داخلك تُعدِّلُ شيئًا من صفاتِك وطباعِك. ربما لم تتعلمِ الصدقةَ تزيدُ المالَ إلا بعد أن أعطيتَ من فقرٍ وقلةٍ. ربما تعلمتَ الحلمَ بعد أن صفحتَ عمَّن أساءَ إليك، لرحمةٍ تسللتْ إلى قلبِك. ربما تعلمتَ الصبرَ بعد أن أدركتَ من مواقفَ عديدةٍ مرتْ عليك أن لا حالَ يدوم، وأن بعد الشدةِ فرجٌ. ولربما فقدتَ عزيزًا اعتقدتَ أن الحياةَ مستحيلةٌ في غيابه، وأصبحت حياتُك بعد مدةٍ أفضلَ بكثيرٍ مما كنتَ عليه في حياتِه.
ولو تأملنا في نصرِ اللهِ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بفتح مكة، فقد كانت هناك معركةٌ عظيمةٌ سبقتها معاركُ أشدُّ وأمرُّ، جالتْ في صدور المؤمنين من شجاعةٍ وجرأةٍ لمواجهة الموت. فقد باعوا أنفسَهم لمرضاة الله، وماتتْ في أرواحهم أشياءُ كثيرةٌ قبل أن ينطلقَ كلُّ واحدٍ منهم للقتال. لقد تألموا واصطُلوا بنار الفراق للأبناء والأزواج والمال والمتاع والدنيا بأسرها. ولا بد أن الهاجسَ راودهم فيما قد يصيبَ أحباءَهم من بعدهم من ضعفٍ ومحن. فكانت هذه هي التضحيةُ التي قدموها ليحصلوا على شهادةٍ تُخلِّدُهم في النعيم، أو فتحٍ عظيمٍ ونصرٍ مبين.
فالمجدُ والعزُّ لا بد لهما من ثمنٍ، مهما كان هذا الامتحانُ والاختبارُ ثقيلًا وأليمًا. فثقْ باللهِ الذي وجَّهه إليكَ بأنه يعلمُ أنكَ كفؤٌ له، وأنه يمكنُك تحمُّلُه والتحوُّلُ من خلاله إلى الأفضل. فاللهُ لا يُكلِّفُ نفسًا إلا وسعَها. وهو سبحانه يغلقُ بعضَ الأبواب، ويُفصِلُك عن بعضِ الأشخاص، ليفتحَ لك أبوابًا أجملَ وأفضلَ، ويضعَ في طريقِك أشخاصًا أفضلَ ليناسبوا مرحلةَ تطورِك ووعيك الحالي.
أنت تدعو، واللهُ يستجيب، ولكنه يستجيبُ بعضَ دعائك، ويؤخِّرُ بعضَه حتى تصبحَ جاهزًا لاستقبالِ هذا الخيرِ الذي طلبته. حتى إن بعضَ الدعاء قد يُؤخَّرُ لك ولا نجدُ أثره إلا بعد الممات، لأنه لم يُكتَبْ لك أن تكونَ مؤهلًا لاستقبالِه في حياتك الدنيا.
لا يجب علينا أن نحقدَ على مَن آذانا أو تسبَّبَ لنا بشيءٍ من الأذى النفسي، فهو مُيَسَّرٌ لذلك الأذى، وكُتِبَ علينا أن يُصيبنا.
كما قال الله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾. وإن كان القصاصُ مشروعًا في الدين، فإن العفوَ دائمًا أفضلُ منه.
وعندما تصيبُنا الأقدارُ بسهامها، فنحن نملكُ خيارين: إما الصبرَ أو الجزعَ. وكلاهما عجزٌ وقلةُ حيلةٍ، لكن الصبرَ تصحبُه ثقةٌ بالله وانتظارٌ للفرج، والجزعُ يأسٌ وقنوطٌ بلا أمل.
إن إدراكَكَ وتفكيرَكَ في الصدماتِ والمآسي والأحزان بهذا الشكل، واستشعارَ الجانبِ المخفي فيها، يجعلكَ جاهزًا لاستقبال النِّعم. بالرضا بما رضي اللهُ به لك، والتسليمِ له، والسكينةِ ، والثقةِ بأن فيما حدثَ وما يحدثُ خيرًا لك، مهما بدا الأمرُ مغايرًا. فاللهُ علامُ الغيوب، وأنت لا تعلمُ من الغيبِ شيئًا. فـ﴿عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، و﴿عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
وكُنْ مستعدًّا لاستقبالِ نِعَمِ اللهِ عليكَ جزاءً بما صبرتَ عليه من الم ، وثقةٍ بجميلِ صنعِ الله . أما الإنسانُ الذي يجزعُ ويحتجُّ على قضاءِ اللهِ وقدرِه، ولا يُسلِّمُ به ولا يرضى، فإنه يصبحُ أعمى القلبِ والبصيرةِ عن هذه الفرصِ والنعم، فيبقى في حزنِه ويموتُ بحسرتِه.
والله سبحانه يقول في محكم كتابه:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155-157].
فهنا يجبُ علينا أن نصبرَ، ونَجمعَ شتاتَنا، ونرجعَ إلى الله، ونترقبَ صلواتِه ورحمتَه بكل ثقة.
إنه الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ الذي يصيبُك:
الإيمانُ بأن أمرَ المؤمنِ كله خيرٌ؛ إن أصابتْه سراءُ شكرَ، وإن أصابتْه ضراءُ صبرَ.
الإيمانُ بأنه لن يُصيبَنا إلا ما كتبَ اللهُ لنا.
الإيمانُ بأن الخيرةَ فيما اختاره الله.
الإيمانُ بأن اللهَ يُبشِّرُ الصابرين.
الإيمانُ بأن اللهَ لطيفٌ بعبادِه.
الإيمانُ بأن مَن توكلَ على اللهِ كفاه.
الإيمانُ بأن اللهَ رحمنٌ رحيمٌ، وأن رحمتَه وسعتْ كلَّ شيء.
عليكَ أن تدركَ أن كلَّ ألمٍ ووجعٍ يعقبُه أبوابٌ جميلةٌ تفتحُ، لا يراها إلا الصابرون الواثقون بالله.
تأمل بصدق في داخلك ، راقبْ أفكارَكَ ومشاعرَكَ عند المعاناةِ، واسألْ نفسَك: أيها حقيقي وأيها وهم؟ وابحث عن العيوبِ التي تثقل قلبك وتطهر منها بالعلم والتوبه .
فحين نرى المعاناةَ من زاويةِ الحكمةِ، تكونُ نتيجتُها صفاءً وسعادةً لقلوبنا.
اسأل نفسَك عند كل ابتلاء : ما التغييرُ الذي يجبُ أن أقومَ به في حياتي الآن؟ أين هو الضوءُ الذي سلَّطَه هذا الألمُ وأنارَ لي ظلمتَه؟
اين هو اللطف المتخفي خلف هذا الألم ؟
يال روعة الكلمات هذه المواساة التي يحتاجها كل انسان مر في اختبارات الدنيا ليعبم ان خلف كل الم رحمة من الله بعبادة
كل الشكر لك استاذه شذى…
يسعدني انك وجدت في كلماتي بعض المواساة ، هكذا هي الحياة نحتاج أن نتاملها من زوايا اخرى ..🌸
👍👍👍👍👍
ممتنه لك استاذتي ❤️