كُتاب الرأي

عزاءٌ أم ملتقى اجتماعي؟!

 

عزاءٌ أم ملتقى اجتماعي؟!

في مجتمعاتناا العزيزة، لا تُقاس المصائب بحجم الألم، بل بعدد الحضور ونوعية القهوة! وكأن الحزن يُعدّ على هيئة صفوف المعزّين لا فداحة الغياب. فقد تحوّل العزاء بذكاء اجتماعي خارق إلى ما يشبه الموسم الاجتماعي، حيث ترى الوجوه التي لم تظهر منذ مناسبة زواجك…
مشهد الافتتاح: فنجان وقهوة ودهشة اللقاء!
أول ما يصافحك في مجلس العزاء ليس وجه صاحب المصيبة، بل إبريق قهوة ذهبي لامع، وذراع تمتد إليك بكل حماس قائلة:
“يالله حيّه فنجال وعلوم رجال؟!”
ثم يجلس بجانبك أحد الأقارب الذين لم ترهم منذ نكبة بيروت، ويقول بنبرة (النوستالجيا):
“والله فقدناك! نحسبك مُت!”
فتبتسم وترد عليه: “إذا جيت أموت أعطيكم خبر…”
وتبدأ الضحكات… فوق رؤوس الحزانى..
النميمة الحزينة وتحليل المشاعر!
أما بعض المعزين، فقد جاءوا وفي نيتهم التحليل النفسي العميق لصاحب العزاء، فيقول أحدهم:
“شفت فلان؟ ما نزل دمعة! شكله ما كان يحب المرحوم!”
بينما يرد الآخر بثقة محلل سياسي:
“حتى نبرة صوته ما كانت حزينة… واضح أنه متماسك بزيادة.”
وهكذا، يصبح الحزن مادةً للتقييم، لا للتعاطف.
الطعام… “مستوى نضج” العزاء!
لا يمكن أن يُذكر العزاء دون أن نقف – وقفة تأمل – عند مائدة الطعام.
طعام العزاء صار مؤشرًا طبقيًا دقيقًا، يحمل بين أطباقه رسائل اجتماعية ضمنية:
– “عزاؤهم محترم، رز بخاري طيب ولحم حاشي من حلال معروف.”
– “لكن الطباخ شكله جديد، ما له نفس، واضح ما عاش جو المصيبة!”
– “تخيل يقولون طبخوها في مطبخ (أي كلام!) والله ما عاد فيه اهتمام!”
ثم يبدأ النقد الفني لأداء الأرز والبهارات وكأننا في لجنة تحكيم لمسابقة “طهاة الحزن”.
“الرز مستوي مرة، باين إنه مبلول زيادة واللحم شديد شوي!”
وإذا تكرمت عليهم بأقل من ثلاث ذبائح، فاستعد لحملة إعلامية لا ترحم!
الأطفال… موسيقى الخلفية الرسمية!
أما الأطفال، فهم العنصر الأكثر إثارة في العزاء.
ففي قسم الرجال، تجده يركض بين الأرجل ويصرخ كما لو أنه فاز بكأس العالم، وآخر ينفخ في فم جدّه النائم لأنه “طفشان! والآخرون في مباراة حامية الوطيس يتراشقون بعلب المياه!
وفي قسم النساء، تتحول المجالس إلى حديقة ألعاب صوتية:
– طفل يبكي لأنه لم يحصل على الجوال.
– طفلة ( تتناقز ) على الكنب كأنها على “ترامبولين”.
– وصغير آخر يردد بصوتٍ مرتفع:
“يمّا متى نروح؟ طفشت من الميت!”
وحينما تسأل الأم: “ليش ما تهدّين ولدك؟”
يأتي الرد الجاهز:
“مسكين، مأثر فيه جو الحزن…”
الخاتمة: موسم العزاء القادم… قريبًا على سناب!
وهكذا تحوّل العزاء إلى فعالية اجتماعية متكاملة: لقاءات، وجبات، تحليلات، صور (أحيانًا)، وأطفال في وضع “شحن زائد”.
وإذا استمر هذا النهج، فلا تستبعد قريبًا أن تجد دعوة عزاء إلكترونية فيها خيارات:
“هل ترغب في وجبة نباتية خالية من الدهون؟! هل ستحضر أطفالك؟ نرجو تقييم القهوة والعشاء بعد الخروج!”
يا قوم…
الحزن ليس عرضًا مسرحيًا، ولا مناسبة للوجاهة، ولا فرصة لمقارنة الذبائح وأنواع الطبخ!.
إنه لحظة صمت… واحترام… ومواساة…وتأمل في مصيرنا الذي ينتظرنا جميعًا، بلا تقييمات ولا بوفيهات!.

بقلم: د.دخيل الله عيضه الحارثي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى