عربة القطار .. مشهد رمزي للحياة

العنود العنزي
عربة القطار .. مشهد رمزي للحياة
حينما صعدت إلى القطار لأول مرة، لم يكن ذلك مجرد انتقال من مدينة إلى أخرى، بل كان لحظة وعي جديدة، أشبه باكتشاف فلسفيّ مباغت. بدا لي القطار وكأنه اختزال مكثّف للحياة نفسها، بكل ما تحمله من عبور وتوقف، من وجوه وملامح، ومن انعزالات داخل الزحام.
في كل عربة من عربات القطار، وجدت نفسي أمام عالم مصغّر. كل عربة تمثل موقعًا من مواقع الحياة، أو محطة من محطاتها الممتدة على خارطة هذا الكوكب. أشخاص غرباء يتشاركون الرحلة ذاتها، لكن كلٌّ منهم يحمل عالَمه في داخله. بعضهم متجانسون، وبعضهم لا يجمعهم شيء سوى خطّ السير. وفي زوايا المقاعد، تنهمك العيون بالنظر إلى نوافذهم الخاصة، وكأن لا شيء في الوجود يهم سوى كوب القهوة بين أيديهم وتأملاتهم الساكنة التي تتوه في امتداد السماء.
تأملت طويلاً كيف أن كل راكب غارق في صمته، في ذكرياته، في لحظات تأمل لا تخلو من حزن أو رجاء. يسكنه الماضي، أو ربّما المستقبل، ولكن نادرا ما يرى من يجلس إلى جواره. كم هو غريب أن نكون على هذا القرب من بعض، ومع ذلك نبدو كأننا نعيش على جزر معزولة.
كل نافذة تمثل نافذة حياة، تطل على عالم داخلي أكثر من كونها تطل على طريق خارجي.
يتوقف القطار في محطاته، تماما كما تتوقف عقولنا عند محطات الحياة.
عند لحظة فقد، عند لقاء حميم، عند قرار مصيري.
يقف الراكب، يُنهي شروده، ثم يعود إلى تأملاته السابقة وقد تغير شيء ما بداخله، وكأن كل محطة توقظ شيئا ثم تنام من جديد.
وبين تلك المحطات، تستمر الرحلة، كما تستمر الحياة، لا تسأل عنك ولا تنتظر أحدا.
ثم، وعلى حين غفلة من الجميع، يعلو صوت موظف القطار: “نرجو من الركاب الاستعداد للنزول، لقد اقتربنا من محطة الوصول” .
وهنا فقط، ينتبه الركاب لواقعهم، يتبادلون النظرات، ينهضون من مقاعدهم وكأنهم خرجوا من حلم طويل. البعض يبتسم، وآخرون يبدون عليه الارتباك، ولكن الجميع يعلم في قرارة نفسه أن الرحلة قد أوشكت على الانتهاء، وأن وقت النزول قد حان.
هذا المشهد البسيط، الذي قد يراه البعض عاديا، يحوي في عمقه رمزا كبيرا.
فنحن جميعا ركّاب في قطار الحياة.
نحمل معنا ذكرياتنا، آمالنا، همومنا، ومجموعة من الوجوه التي تمر، بعضها يترك أثرا وبعضها لا نكاد نلحظه، وعندما تحين اللحظة، ينادي علينا صوت الحياة أو الموت، يخبرنا أن المحطة قد اقتربت، فننزل ليبدأ غيرنا رحلة جديدة، بعربة جديدة، وبنفس المشاعر الغامضة التي رافقتنا.
وهكذا، تستمر الحياة. قطارات تمضي، وعربات تتبدل، وركّاب يصعدون وينزلون. ويبقى الشيء الوحيد الثابت، هو أن لكل راكب محطة، ولكل نافذة قصة، ولكل رحلة نهاية.
إنها ليست مجرد تجربة سفر، بل درس عميق في فلسفة العيش. كم نحتاج أحيانًا إلى ركوب قطار، لا لننتقل بين الأماكن، بل لنفهم أننا لسنا سوى عابري طريق، تمر بنا الحياة كما يمر بنا القطار، ويكفي أن ننتبه للحظة، لنفهم المعنى.
تجر حياتنا بقوة الجذب والدفع نعيش في قطار متزاحم من الامال والألام لنعيش رحلات مختلف
كتابه جميلة للاعلامية المتألقة العنود العنزي لا فض فوك