كُتاب الرأي

عبيد الترند

عبيد الترند

محمد الفريدي

نحن في زمن صار فيه الصمتُ ذكاء، والكلمةُ تهمة، والوعيُ جريمة لا تُغتفر. زمنٌ يُكافأ فيه التافهون بالأضواء والشهرة، ويُعاقب فيه الصادقون بالحجب والعزل والتهميش. لم يعد الحق يعلو بالصوت، بل يُدفن تحت ركام الترندات المزيّفة، فصار “اللايك” سيفا، والمشاهدات حكما نهائيا، والخوارزمية سجّانا لا يرحم.

إنها مرحلة يُراد فيها للناس أن يضحكوا بدل أن يفكروا، وأن يصفقوا بدل أن يتحدّوا، وأن يركضوا وراء التفاهة كأنها خلاصهم الوحيد. ومن يجرؤ على رفع صوته بكلمة حق يُرمى خارج السرب، وكأن الحضور غير مسموح به إلا للمهرجين.

لم يعد الاستبداد بحاجة إلى عسكر، ولا إلى سوط يجلد ظهورنا؛ بل يكفيه هاتفٌ ذكي، وخوارزميةٌ صامتة تسحب عقولنا من دون مقاومة إلى حيث يريد. صار الطغيان أكثر نعومة، لكنه أشد فتكا؛ لا يُرعبنا بالسجون، بل يسلب إرادتنا ونحن نبتسم أمام شاشات مضيئة. تحوّلنا إلى أرقام في جداولهم، وإلى “مستهلكين” مطيعين لا يسألون ولا يعترضون، بل يصفّقون لكل ما يُعرض عليهم كما لو كان قدرا محتوما لا فكاك منه.

الاستبداد الجديد لا يطلب منّا الصمت، بل يُغرقنا في ضجيج فارغ حتى نفقد قدرتنا على التمييز بين الحق والباطل. يترك لنا حرية الكلام، لكنه يدفن أصواتنا تحت جبل من التافهين الذين تُصنَع نجوميتهم على أعين المنصات الرقمية. يفتح لنا باب التعبير، لكنه يُغلق الطريق إلى التأثير. فيتحوّل المثقّف إلى متّهم، والمفكّر إلى خطر، والعقل إلى لعنة يجب محاصرته قبل أن يتحوّل إلى عدوى تعمّ الجميع.

الاستبداد اليوم لا يطاردنا في الشوارع، بل يدخل بيوتنا، وينام في جيوبنا، ويقرأ أفكارنا، ويقرر عنّا ماذا نرى وماذا نسمع وماذا نصدّق. لم يعد يحتاج إلى جواسيس، فقد صرنا نحن بأنفسنا نمنحه أسرارنا طواعية، نكتبها بأيدينا، ونشاركها بفرح على المنصات، ليُبنى لنا منها سجنٌ رقمي بأبواب مفتوحة.

إنه الاستبداد الذي يلبس ثوب الحرية، ويوهمنا أننا نختار ما نريد، بينما في الحقيقة يُعيد تشكيل وعينا كما يشاء. يوجّه غضبنا نحو التفاهات، ويُسكّن سخطنا بالمُلهيات، ويُخدّر عقولنا بفيض من الصور السريعة والكلمات الفارغة وبالمتع المصطنعة. إنه الاستبداد الذي لا يطلب منا أن نذعن له بالقوة، بل يجعلنا نعتقد أن عبوديتنا خيارٌ شخصي، وأن قيدنا الذهبي تاجٌ فوق رؤوسنا.

ولعلّ المشهد يتجسّد في ذلك الشاب الذي رأيته يوما في مقهى، لم يرفع عينيه عن هاتفه ساعة كاملة. كان يضحك حينا، ويغضب حينا، ثم يدخل في صمت طويل وكأنه فقد وعيه. وحين سأله صديقه عمّا يفعل، أجاب: “أتابع الترند.” نظرتُ في عينيه فرأيت خواء مخيفا؛ شابا في العشرين من عمره يظن أنه يعيش اللحظة، بينما هو في الحقيقة يُساق كالقطيع، تُحرّكه خوارزمية لا يراها. لم يحتج إلى سجان يقف فوق رأسه، فقد صار هو السجّان، وأغلق على نفسه زنزانته الرقمية بملء إرادته.

المثقف هنا أمام معركة حقيقية؛ معركةٌ لا تُخاض بالسيوف ولا بالبندقية، بل بالكلمة الصادقة والفكرة الحية. لكنه – للأسف – محاصر على الدوام؛ إن كتب ضد السائد حجبوه، وإن رفع صوته أسكتوه، وإن صمت صار جزءا من اللعبة. لذلك لا مكان للحياد؛ إمّا أن نكون ضميرا يقاوم ويوقظ، أو أن نتحول إلى ديكور رقمي يزيّن واجهة الاستبداد ويخدمه. ومن يظن أنه بمنأى عن المعركة، يضع نفسه في صفّ الجلاد من حيث لا يدري.

المثقّف الذي يختار الصمت أو المهادنة، إنما يُسلّم مصيره للعشوائية الرقمية، ويترك الساحة لتجّار التفاهة وأصحاب الخوارزميات. أمّا من يجهر بالحق بلا خوف، ويطلق كلمته كرصاصة في وجه الباطل، فهو الشرارة التي تُضيء عتمة وعي أمة كاملة، والكلمة الصادقة لا تموت، ولو حاول الاستبداد الرقمي دفنها؛ فهي تنتقل من ذهن إلى ذهن، ومن قلب إلى قلب، لتُعيد للأمة وعيا كان منتهكا، وتُذكّر الجميع أن النجاة تبدأ بفكرة، وتستمر بكلمة، وتصمد بموقف.

الاستبداد الرقمي أخطر من الاستبداد السياسي. الطغاة القدماء – عليهم سلام الله – كانوا يسرقون الأرض والثروة، أما الطغيان الحديث فيسرق الإنسان نفسه: وعيه، وقيمه، وذاكرته، ويجعل الناس يقيسون قيمتهم بعدد المتابعين لا بصدق الكلمة، ويرفع التفاهة إلى صدارة المشهد، ويخنق أي صوت جاد، ويحوّل العقل الحر إلى مجرد رقم في قاعدة بيانات، والضمير المستنير إلى صدى باهت يُدفن تحت ركام التفاهة الرقمية، بينما يظن الناس أنهم أحرار، وهم في الحقيقة أسرى خوارزميات لا ترحم.

اللايك” صار سوطا جديدا، و”الترند” صار زنزانة، والحرية اختُزلت في شاشة صغيرة تقرّر مصيرنا ومصير أمتنا. والمثقّف الذي يجرؤ على رفع صوته بالكلمة الحقيقية يُطرَد، ويُحجَب، ويُهمَّش، بينما يُفتح المجال لمن يبيع التفاهة ويصنع وهم الشهرة بسرعة، ليصبح مع القطيع الرقمي تابعا بلا وعي، يصفّق ويهتف كما يُملى عليه، معتقدا أنه يختار، بينما هو في الحقيقة عبدٌ لخوارزمية لا ترى. فإذا صمت العقلاء، تكلمت الخوارزميات، وحينها لن يبقى لأمتنا عقلٌ يقودها، بل قطيعٌ يُساق إلى الهاوية.

حدثني أحد المفكرين العرب في إحدى الدول، من الذين يفضحون هذا الطغيانالرقمي الجديد، فقال: “كتبت مقالا جريئا ضد الإبادة الجماعية التي يقوم بها الكيانالصهيوني لأهلنا في غزة، وكشفت فيه كيف تحوّلت المنصات إلى أدوات لتلميعالمحتل وتشويه القضية الفلسطينية. انتشر المقال بسرعة، ولكن خلال ساعات تمحذفه بدعوى (مخالفة المعايير) .

ولم يكتفوا بالحذف، بل جُمّد حسابه أيضا. وفي الوقت نفسه، كانت الفيديوهات التي تلهينا بلا فائدة والرقص السخيف تحصد ملايين المشاهدات بلا رقيب. هذه هي حقيقة الاستبداد الرقمي الناعم: يخرسك بزرٍّ واحد، ثم يغرقك في التفاهة حتى ترضى بالواقع وكأنه قدر محتوم.

المجتمع الذي يُقصي المثقف، ويستبدل صوته بصوت المهرج، يحكم على نفسه بالهلاك. المثقف ليس ديكورا يُزيّن الواجهة، أو موظفا عند الأجهزة الرسمية، بل هو حارس الوعي وكاشف الزيف. وإذا غاب صوته، تصبح الأمة جسدا بلا روح، تتخبط في تيه التفاهة، وتقبل بالواقع كما هو: بلا نقد، بلا موقف، بلا قيم إنسانية. وحدها الكلمة الحرة، والموقف الصلب قادران على إعادة العقل إلى صاحبه، والضمير إلى صاحبه، لتبقى الحرية فكرة حيّة، لا مجرد وهم رقمي يُساق إليه القطيع.

المعركة واضحة: إمّا أن ينهض المثقف ليقول كلمته رغم القمع الرقمي، وإمّا أن يترك الساحة للتافهين وأصحاب البث المباشر الذين يبيعون الوهم باسم الضحك والمتعة الرقمية الفارغة.

الشعارات وحدها لا تكفي، والحياد خيانة، والأمة لا يحميها الصمت ولا الدعاء وحده، بل يحميها موقفٌ صلب، وكلمة تُقال بجرأة مهما كان الثمن. والمثقف الذي يختار الصمت أو المهادنة يُسلِّم مصيرنا للضياع الرقمي، بينما من يرفع صوته بلا خوف يزرع وعي الأمة، ويذكّر الجميع أن السيادة ليست مجرد شعار، بل فعلٌ وإرادة ومواجهة. فالكلمة الحقيقية هي الشرارة التي تُضيء الظلام الرقمي، وتُعيد للأمة ضميرها وهويتها، مهما حاول الاستبداد أن يخنقها. ومن لم يرفع صوته اليوم، سيجد نفسه غدا مجرّد صدى بلا قيمة في عالم يسيطر عليه الصمت و الخوارزميات.

الاستبداد يتغير شكله، لكن قاعدته واحدة: السيطرة. وما أُخذ بالهيمنة الرقمية لن يُسترد إلا بالكلمة الصادقة، والموقف الذي لا يساوم، والوعي الشجاع الذي يرفض أن يكون عبدا للتقنية.

المثقف الحقيقي هو من يختار أن يكون شوكة في حلق هذا الطغيان الناعم. فإن سقط المثقف، سقطت ذاكرة أمتنا معه، وصرنا مجرد قطيع يُقاد بالشاشة، يضحك ويصفق ويُقنع بأنه حر، بينما في الواقع يُساق بلا وعي إلى مقابر التفاهة الرقمية.

نحن نعيش اليوم في زمن تُختنق فيه عقولنا وتُخدَّر بجرعات يومية من التفاهة المصطنعة، حتى أصبح الضحك على السطحية وتقديس الترند أقوى من أي فكرة حقيقية، وأقوى من أي كلمة صادقة تترك أثرها في عقول الناس.

لم يعد الأمر بريئا ولا عفويا، بل هو مشروع مُخطط له لإغراق عقولنا بالمحتوى الهابط، حتى يصبح الكلام الجاد ثقيلا على آذاننا، والفكرة الحرة المختلفة مزعجة جدا، والحق عبءٌ لا يُحتمل.

انظر إلى منصات التواصل: التافه يُمنح الضوء الأخضر، والنجومية، والتميّز، والأموال،أمّا الصادق فيُحجب ويُطرَد. وتُفتح الساحات للمهرجين، بينما يُدفع المثقف دفعا إلىالظل، والناسللأسفيتسابقون وراء التفاهة كأنهم يهربون من وعيهم. فتتحولالمنصات من فضاء للتواصل والتنوير إلى مسرح للتفاهة، يُصنع فيه القطيع الرقميويُوجَّه بلا وعي، بينما يُخنق صوت الحق تحت ضجيج مغشوش ومحرَّف من الأكاذيبوالخداع.

المثقف الحقيقي لا مكان له في هذه الأجواء الملوثة؛ لأنه لا يبيع الوهم، ولا يتسوّل رضا المتابعين، ويرفض أن يكون جزءا من السيرك الرقمي الذي يقدّم التفاهة على أنها فضيلة. ويقف ضد تيار الغفلة الجماعية الذي يغرق الناس في ضجيج فارغ، ويظل حارسا للضمير، وكاشفا للزيف، وصوتا يذكّر أمتنا بأنها قادرة على الفهم والمقاومة، حتى وإن حاول الاستبداد الرقمي إسكات صوته، وتهميش وجوده، وإخفاء أثر كلماته.

المثقف الصادق يعرف أن كلمته قد تُكلّفه الكثير، لكنه يطلقها لأنه يؤمن أن الصمت جريمة، وأن الكلمة إذا لم تكن خنجرا في صدر الباطل، فهي مجرد هراء.

الاستبداد الرقمي لا يقتل الجسد، بل يقتل الروح، ويسرق الوقت، وينهب الحسّ اليقظ، ويحوّل الناس إلى عبيد للشاشة. وهو أخطر من أي طغيان عرفناه، لأننا هذه المرة لا نشعر بأننا سجناء، بل نضحك ونصفق داخل سجوننا وفي زنازيننا الانفرادية. وفي هذه السجون الرقمية، يُصبح التفكير المستقل جريمة، والحسّ اليقظ تهديدا، بينما تُمنح التفاهة صكّا بالشرعية، ويُحتفى بمن يبيع الوهم باسم المتعة الرقمية.

ولهذا فإن المثقف اليوم ليس أمامه خيار آخر: إمّا أن يكون صوته نارا تحرق جدران الوهم، أو يتحول إلى صدى باهت لا يسمعه أحد. ونحن في معركة حقيقية؛ إمّا أن تنتصر الكلمة الحرة، أو تُدفن أمتنا بأكملها في مقابر التفاهة.

وصدقوني، إن ما أُخذ منّا بالخداع الرقمي وبالخوارزميات لن يُستعاد إلا بالوعي الشجاع، وبالكلمة التي تُقال بلا خوف. فالمثقف، إن لم يكن صارما بلسانه وقلمه، فلن يكون إلا شاهدَ زورٍ على موت ضميرنا. أما السكوت أمام هذا الخداع الرقمي، فليس مجرد غياب للكلمة، بل هو مشاركةٌ في استعباد العقول وإسكات الضمير.

فإمّا أن يقف المثقف حارسا لذاكرتنا وصوتِنا وحقيقتِنا، أو فليلتحق بساحة القطيع ويرقص في حضرة الاستبداد الرقمي مع بقية القطيع. فالكلمة الصادقة والموقف الجريء ليسا مجرد خيار، بل حصنُنا الأخير ضد طغيان الخوارزميات العالمية التي لا ترحم، وبدونهما سنغرق في مستنقع الضياع الرقمي بلا رجعة، حيث يُخنق الحق ويُبتلع كل أثر للصمود، وتَصبح أمتُنا حديقة خلفية لهم وللتدليس والكذب الممنهج، لا يُزرع فيها سوى الشكّ والخوف والخنوع.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

تعليق واحد

  1. احسنت ابا سلطان فقد اوضحت بايجاز الواقع المر الذي يعيشه معظم الناس في مجتمعنا الحاضر . فلا نستغرب هذا فقد ذكر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وقال ( سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الامين ، وينطق فيها الرويبضة ، قيل وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم او يفتى في امر العامة . وهذا بلا شك الزمان الحاضر الذي نعيش فيه . نسأل الله السلامة .
    وندعوا الله ان يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى