كُتاب الرأي

عبدة الأكاذيب وطنيتهم من ورق

محمد الفريدي

عبدة الأكاذيب وطنيتهم من ورق

في زمن كثرت فيه الأصوات المرتجفة، وارتفع فيه صراخ المثقفين المزيفين، يخرج علينا من بين الركام شلة من الشعوبيين، يدّعون بأن لا شيء يعلو على قداسة حياة الإنسان، وأن الوطن ليس سوى كذبة كبرى نُسجت لابتلاع أحلام البسطاء وسَوقهم إلى مقصلة الفناء باسم “التضحية والفداء”.

هؤلاء لا يعنيهم الإنسان في واقع الأمر، بل يستخدمونه كقناع لتبرير خيانتهم، وكأن دماء شهدائنا عندهم مجرد حبر على ورق، يُمحى ببيان حقوقي أو تغريدة واهية.

يتحدث هؤلاء في وسائل التواصل وكأن التضحية من أجل الوطن خرافة من خرافات الماضي، و الشجاعة تهمة، والولاء للوطن وحكامه جريمة كبرى.

هم يخلطون بين الإنسان كقيمة سامية، وبين استثمارهم الرخيص للهروب من المواقف النبيلة التي لا يعرفون معناها، يقدّسون الحياة ويتنازلون عن الكرامة، يخافون من الموت، وفي الوقت نفسه يعيشون كالأموات بلا هوية، ولا انتماء، ولا ضمير.

في إحدى الليالي، كنت أتابع بشغف كبير ما يدور على منصة حوارية افتراضية، جمعت شبابا سعوديين مع أصوات غريبة الأطوار، تنفث سمومها من لندن وكندا، وتستخدم شعارات “تحرير الإنسان من سلطة الحكام والأوطان”.

تحدث أحدهم بلهجة حاقدة، وقال: “لقد تعبنا من تقديم القرابين باسم الوطن، وطن آل سعود لا يستحق أن نموت من أجله، وهم لا يدعون الناس تعيش.

أغلقت التطبيق فورا، ليس غضبا فحسب، بل لأنني شعرت حينها أن هؤلاء لا يعرفون شيئا عن الحياة نفسها، فالحياة بدون كرامة ليست حياة، والكرامة لا تُصان إلا بالتواجد على تراب الوطن، لا بالهروب منه.

تذكرت يومها موقفي مع أحد أبناء زملائي الضباط في محافظة على أطراف المدينة. كان شابا في مقتبل العمر، لكنه كان يحمل في قلبه انتماءً يشبه جذور النخيل الثابتة، الراسخة التي تضرب منذ القدم في أعماق الأرض.

جاءني ذات صباح في مكتبي، وفي عينيه بريق العزيمة، وقال: “كما تعلم، والدي استُشهد في الحد الجنوبي، وقررت أن أكمّل طريقه ، و سأقدِم على الكلية الحربية وأريد أن توقع أوراقي ”.

نظرت إليه، ولم أملك إلا أن أضع يدي على كتفه وأقول: “أنت ابن هذا الوطن، وهذه الأرض تعرف أمثالك جيدا”، ثم وقعت له الأوراق.

ذلك الشاب لم يكن يسعى لمجد شخصي، ولا لوسام عسكري، بل كان يرد الجميل لأرض احتضنت والده شهيدا، ويريد أن يواصل المسير على خطى العزة، لا على وقع الشعارات المستوردة من نخب لا تفهم إلا لغة التنظير.

الذين يتهكمون على تضحياتنا لا يعرفون أن الوطن بالنسبة لنا ليس وثيقة سفر، ولا نظاما ملكيا فقط، بل هو عرق الأجداد، وتراب الطهر الذي مشت عليه الأمهات، وأصوات المؤذنين، ودفء المجالس، وخبز الطفولة، وإن فقدناه، نفقد معه كل ما يجعل للحياة معنى، ونصبح غرباء في وطننا بلا جذور ولا هوية.

هو كل ما يربطنا بالحياة بكرامة، والخونة يريدون اختزال الوطن في ملك وراية، ثم يتهموننا أننا نموت من أجل أشخاص وقطعة قماش خضراء ، وهم في الحقيقة لم يعوا أن الراية ليست قماشا، بل دماء طاهرة نُسجت من ماض عريق.

أولئك الخونة لا يقرأون التاريخ إلا من زوايا مظلمة، ولا يرون في التضحية إلا عبثا، لأنهم فقدوا الإحساس بالعزة والكرامة. ولكننا، في هذا البلد، نحمل في عروقنا حبا لا يفهمه إلا من عرف لحظات الخطر، وسمع أنين الأمهات الثكالى، وشاهد الابتسامة ترتسم على وجه جندي وهو يغادر ليحمي حدود الوطن.

هل نتحدث عن أوروبا التي تجاوزت العشائرية؟!
حسنًا، ليتنا كنا مثل أوروبا في احترامها لحكامها، ولحدودها، ولأوطانها. لكن هؤلاء يريدوننا أن نكون نسخة من أوروبا بلا حدود، بلا هوية، بلا دين، وبلا قيادة نثق بها.

يريدوننا أن نُفكك بيتنا بايدينا باسم “حقوق الإنسان”، ثم نجلس بعد ذلك على الركام نتحسر على وطن فقدناه.

في المملكة، الوطنية ليست مزاجية، ولا قصيدة تُلقى في احتفالات مدارسنا ثم تُنسى، بل هي نبض يومي، وإحساس دفين في قلب كل مواطن.

هي انحياز فطري لما هو ثابت وأصيل، لا لما هو طارئ ومصطنع.

الوطنية عندنا لا تحتاج إلى منابر تشرحها، بل إلى مواقف تثبتها.

نحن نواجه اليوم معركة من نوع جديد، لا تُدار فيها الدبابات والطائرات، بل تُطلق فيها رصاصات على شكل تغريدات، وتُزرع فيها قنابل الشكوك، ويُروّج فيها أن التضحية في سبيل الوطن مجرد خرافة تؤدي إلى الهلاك.

إنها معركة وعي، وقد أثبت السعوديون أنهم جديرون بخوضها، لأنهم أبناء رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

إنني أكتب هذا المقال وفي ذهني مشاهد شهدتها بنفسي في جنوب المملكة عندما كنت في زيارة لأبها البهية، والتقيت بوالد شهيد، كان قد فقد ابنه الأكبر في إحدى الاشتباكات في الحد الجنوبي، فقلت له، وأنا أحاول مواساته: “نسأل الله أن يتقبله”، فأجابني على الفور، وهو يرفع رأسه بفخر: “ما طلبنا إلا الشهادة له، ولو عندي عشرة مثله ما ترددت في إرسالهم إلى الحد ”.

ذلك الموقف لا يمكن أن يُفهَم في قاموس أولئك الذين يتشدقون بالحرية، بينما هم لايزالون عبيدا لمصالح الغرب.

لا يمكنهم إدراك معنى أن تعطي دون أن تنتظر شيئا، أن تفدي وطنك بأولادك دون أن تتراجع قيد أنملة، أن تؤمن بأن هذه الأرض تستحق أكثر، وأن الدولة التي احتضنتك، وأمّنتك، وعلّمتك، ليست سلطة قمع، بل راية فخر؛ لأنها في قلوبنا عقيدة، وفي ضمائرنا أمانة، وفي دمائنا عهد لا يُنكث.

التاريخ لن يرحم أولئك الذين باعوا ولاءهم، ولن يُنقذهم تعاطف جرذان تويتر معهم، ولن تبيض صفحاتهم مقالات تبريرية تُنشر لهم في صحف الخارج.

أما نحن، أبناء هذا الوطن، فنحن نعلم أن العزة لا تُشترى، وأن الشجاعة تُورّث، ولن نسمح لأحد أن ينتزع منا كرامتنا أو يطمس هويتنا مهما اشتدت المحن.

وفي النهاية، سيبقى الوطن شامخا، لأن فيه رجالا لا يترددون، ونساء يصنعن المجد بصمت، وأمهات يُربين أبطالا لا يخافون الموت في سبيل الوطن والحق.

أما أولئك الذين خانوه، فالتاريخ كفيل بأن يُسقط أقنعتهم، ويتركهم في زوايا النسيان، يرددون شعارات لن تنقذهم من لعنة الخيانة.

فحين ننظر في وجوه أولئك العابثين الذين يلوكون مفردات مثل “التحرر”، و”العقلانية”، و”نقد الدولة” على مواقع التواصل، ندرك أنهم لا يسعون للإصلاح كما يزعمون، بل يسعون لتقويض القيم، وهدم الثوابت، وزراعة الشك في صلب الولاء.

يحاولون إقناعنا أن حب الوطن تخلف، وأن الدفاع عنه انقياد أعمى لحكامه، لكننا نعلم جيدا أن هذا الحقد المقنّع لا يصدر إلا من قلوب مريضة لم تذق طعم الانتماء، ولم تعرف يوما معنى أن تبكي عند سماع نشيد وطني، أو أن تنتفض لرؤية علم يُهان.

عبدة الأكاذيب والشياطين لا يؤمنون بالوطن، بل يتخذونه سلعة تُباع لمن يدفع أكثر، وينكرونه إذا لم يمنحهم مجدا أو مكانة شخصية.
وطنهم مؤقت، مصنوع من ورق الخيانة والخذلان، لا من دماء الشهداء وأصوات الجنود.

أما نحن فقوم لا نساوم على الأرض ولا الوطن، ولا نُدير ظهورنا له في ساعة الحقيقة.

نحن من نسل رجال بنوا هذا الوطن من حبات رمال الصحراء، وجعلوا منها درعا لا ينكسر، ونقولها اليوم بصوت لا يرتجف:
من لم يعرف للوطن قدره، فليذهب إلى حيث يتقلب على وسائد الخيبة والندامة والخيانة والنسيان.
أما نحن، هنا في السعودية، نقف كما كنا دائما: ثابتين، فخورين، ورايتنا لا تنكسر.

محمد الفريدي

 

 

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى