“ظلٌّ لا يفارقني”

“ظلٌّ لا يفارقني”
لطالما سمعتُ أن الماضي لا يموت، لكنها كانت بالنسبة لي مجرد جملة تتردّد في الروايات. لم أكن أعلم أن الماضي قادرٌ على ملاحقتنا، كظلٍّ لا ينفكّ يطاردنا، حتى لو أغلقنا دونه الأبواب والنوافذ. كنتُ أظن أنني دفنته في أعماق ذاكرتي، لكنه عاد ليطلّ برأسه في ليلةٍ لم تكن ككل الليالي…
أنا فتاةً عادية، أو هكذا بدوت للجميع. اسمي “ريما”، في السابعة عشرة من عمري، أعيش مع والدتي بعد وفاة والدي في حادثٍ غامض قبل عشر سنوات. لم أكن أتذكّر الكثير عن ذلك اليوم المشؤوم، كلّ ما كنتُ أعرفه أنني كنتُ معه في السيارة، ثم استيقظتُ في المستشفى، ووالدي لم يكن هناك.
مرت السنوات، لكنّ شيئًا في داخلي ظلّ مكسورًا. كنت أشعر أن هناك أمرًا ناقصًا، جزءًا من الحقيقة لم يُخبرني به أحد. لم أُرد أن أسأل، فربما كان من الأفضل ألا أعرف.
في إحدى الليالي، بينما كنتُ أدرس في غرفتي، انقطع التيار الكهربائي فجأة. لم يكن الأمر غريبًا، فالمنطقة التي نعيش فيها كثيرًا ما يحدث فيها ذلك. لكن ما جعل قلبي ينبض بعنف هو ذلك الصوت…
كان أشبه بهمسةٍ خرجت من العدم، نداءٌ خافت باسمي:
“ريما…”
شعرتُ بقشعريرةٍ تجتاح جسدي، تجمدتُ في مكاني، وقلبي يخفق بجنون. هل كان ذلك وهمًا؟ هل بدأ التعب يعبث بعقلي؟ حاولت تجاهل الأمر، لكن الصوت تكرر، هذه المرة أقرب، كأنه يقف خلفي تمامًا.
استجمعتُ قواي واستدرتُ ببطء، لكنني لم أرَ أحدًا. إلا أنني شعرت بشيء… حضورٌ ثقيل، كأن الهواء ذاته قد صار أثقل. فجأة، عاد التيار الكهربائي، فركضتُ إلى غرفة والدتي أبحث عن الأمان.
لكنها لم تكن هناك.
بحثتُ عنها في كل أرجاء المنزل، حتى وجدتها واقفةً أمام المرآة في غرفة المعيشة، تحدّق في انعكاسها بصمتٍ مريب. وضعتُ يدي على كتفها، فانتفضتْ كأنها استيقظت من غيبوبة. نظرتْ إليّ بعيونٍ مضطربة وقالت بصوتٍ مرتجف:
” لقد عاد…”
شعرتُ برعشةٍ تسري في جسدي. “من؟” سألتها، لكنها لم تُجب. فقط نظرتْ إليّ بحزن، ثم همستْ: “حان الوقت لتعرفي الحقيقة
جلستْ أمي بجانبي، وعيناها تائهتان في الماضي، ثم بدأت تتحدث.
“في ذلك اليوم الذي مات فيه والدكِ، لم يكن حادثًا عاديًا، بل كان هروبًا… كنا نهرب من شخصٍ ما، شخصٍ لم يكن من المفترض أن يوجد في هذا العالم.”
شعرتُ بالخوف يتسلل إليّ. “ماذا تعنين؟”
تنهدتْ وقالت: “كان والدكِ يعمل في مشروعٍ سرّي، شيءٌ مرتبط بعالمٍ لا نفهمه. وقبل وفاته بأيام، بدأ يصرّح بأشياء غريبة، يقول إن شخصًا يلاحقه، ظلٌّ لا يفارقه. لم نكن نصدّقه… حتى بدأنا نراه نحن أيضًا.”
بلعتُ ريقي بصعوبة، فأردفتْ: “في يوم الحادث، كنا نهرب. والدكِ كان يقود بسرعةٍ جنونية، وعندما نظرتُ في المرآة الخلفية، رأيته… ظلٌّ يتحرك بسرعة غير طبيعية، لم يكن بشرًا، ولم يكن من هذا العالم. فجأة، انحرفت السيارة، وأفقتُ لأجدنا في المستشفى… أما والدكِ، فقد اختفى، ولم نجد له جثة.”
ارتعشتْ أصابعي، وقلتُ بصوتٍ خافت: “تعتقدين أنه عاد؟”
أومأتْ برأسها ببطء.
لم أستطع النوم تلك الليلة، كنتُ أشعر بأن هناك من يراقبني. وعند منتصف الليل، سمعتُ صوتًا جديدًا، هذه المرة لم يكن همسًا، بل كان واضحًا… صوتٌ عميق يقول:
” لقد حان الوقت، ريما.”
جفّ حلقي، ونظرتُ حولي، لكن الغرفة كانت خالية. فجأة، رأيتُ شيئًا في المرآة… ظلٌّ طويل، بلا ملامح، يقف خلفي تمامًا. وقبل أن أصرخ، شعرتُ ببرودةٍ تلامس رقبتي، وهمسة تقول:
الحقيقة ليست كما تظنيين
في اليوم التالي، قرّرتُ البحث عن إجابات. وجدتُ دفتر والدي القديم، مليئًا بملاحظاتٍ ورسوماتٍ غريبة. كانت هناك جملةٌ تتكرّر: لسنا موتى، بل أحياء في عالم ما .
بدأتُ أفهم أن والدي ربما لم يمت، بل كان يحاول الهروب من شيءٍ آخر، شيءٍ لم يكن مجرد ظلّ. شعرتُ وكأن كل شيءٍ حولي بدأ يتغير، كأنني بدأت أرى الحقيقة التي كانت مخفية عني طوال هذه السنوات.
لكنني لم أكن مستعدة بعد لمواجهة المجهول وحدي. قررتُ أن أبحث عن أصدقاء والدي القدامى، عن أي شخصٍ يعرف شيئًا عن هذا العالم الخفي. لم يعد الخوف يسيطر عليّ، بل تحوّل إلى تصميمٍ غريب، وكأن والدي يهمس لي من ذلك العالم المجهول:
ابحثي عني، ريما… لا تتوقفي.
وهكذا، بدأتُ رحلتي الحقيقية، رحلة البحث عن الحقيقة التي أخفاها الجميع عني، وعن والدي الذي لم يكن ميتًا، بل كان ينتظرني في مكانٍ ما .
(النهاية، أو ربما البداية…)