كُتاب الرأي

صِيصان تحت أقدام الفيلة

صِيصان تحت أقدام الفيلة

الهنود، حين يحتاجون إلى نقل الفيلة الضخمة من قارة إلى أخرى عبر الطائرات، يضعون داخل الأقفاص معها “كتاكيت صغيرة”.

قد يبدو الأمر غريبا، أو غير منطقي، أو حتى مضحكا بعض الشيء، لكن السبب مدهش وإنساني للغاية.

الفيلة، رغم حجمها الهائل وقوتها البدنية، تمتلك من الرقة والحنان ما يجعلها تجمّد حركتها تماما داخل تلك الأقفاص، خشية أن تؤذي الكتاكيت الصغيرة التي ترافقها خلال الرحلة.

هذه اللحظة من الوعي والرحمة تدفعها إلى التوقف التام، ليس خوفا أو ضعفا، بل انطلاقا من إحساسها بالمسؤولية تجاه الكائنات الصغيرة التي تعتمد عليها.

تظل الفيلة جامدة لساعات داخل الأقفاص، لا لأنها عاجزة، بل لأنها واعية بحجمها، وتُدرك أن حركتها قد تودي بحياة كتكوت ضعيف تحت أقدامها.

وهكذا تبقى الطائرة متزنة بفضل هذه الأخلاق الرقيقة الراقية.

ليست هذه نكتة، ولا مشهدا من فيلم هندي ينتهي باكتشاف أن الفيلة والكتاكيت إخوة فرّقتهم الأيام، بل حقيقة موثقة استوقفت العلماء، فدفعهم هذا السلوك إلى تشريح أدمغة الفيلة، ليكتشفوا احتواءها على نوع نادر من الخلايا العصبية تُعرف بـ “الخلايا المغزلية”، وهي نفسها الموجودة في دماغ الإنسان، والمسؤولة عن الوعي، والتعاطف، والإدراك، والشعور بالمسؤولية.

بمعنى آخر: الفيلة، إلى جانب ضخامتها، تمتلك قلبا كبيرا، وروحا واعية، ومشاعر راقية.

ليست مجرد كتل لحم وعظم ضخمة، بل كائنات أخلاقية من الطراز الرفيع.

الفنان ليوناردو دافنشي كان مفتونا بالفيلة، ووصفها بكلمات أقرب إلى القصيدة منها إلى التوثيق العلمي، فقال:

“الفيل يتمتع بالاستقامة، والرُشد، واعتدال الطباع.

ينزل إلى النهر ويغتسل بمهابة، كأنه يتطهّر من كل أذى.

وإذا رأى إنسانا تائها، أعاده إلى الطريق بلطف.

يسير دوما في جماعات منظمة، يتقدمها قائد حكيم.

ويتزاوج فقط ليلا، وبعيدا عن أعين القطيع، ثم يعود إليهم بعد أن يغتسل.

وإذا صادف ماشية في طريقه، أزاحها برفق بخرطومه كي لا يؤذي أحدا منها”.

هذه السلوكيات لا يمكن تفسيرها فقط على أنها غرائز، بل هي انعكاس لوعي داخلي يضبط علاقة الفيل بذاته وبالآخرين من حوله.

تأملوا هذا المشهد من جديد: فيل ضخم، يجمّد حركته في قفص صغير لعدة ساعات ، لا لأنه خائف، بل لأنه يشعر بالمسؤولية تجاه الكتاكيت، ويحسب خطواته بدقة، ليس خشية من عقوبة، بل اتقاء للأذى.

كم نحتاج اليوم إلى “أخلاق الفيلة”؟

كم من بشر في هيئة فيلة ضخمة تتحرك في مجتمعنا دون أن ترى الكتاكيت من تحتها؟

كم من مسؤول أو صاحب نفوذ يتحرك في الحياة بثقل صيته ومكانته، بينما تئن الأرواح الضعيفة تحت ظلّه الثقيل؟

كم من صوت لا يُسمع، ودمعة لا تُرى، فقط لأن من يسير فوقها لا يمتلك ما يكفي من الوعي ليشعر بها؟

نحن بحاجة إلى من يقف في مكانه، لا لأنه عاجز، بل لأنه واع بما يكفي ليعرف أن حركته قد تُسقط من تحته أناسا صرعى.

في مجتمعنا نُصفّق للقوة الخشنة، ونعجب بالصوت العالي الجهوري، ونرى الفيلة كائنات “ساذجة” أو “غبية”.

لكن الحقيقة أن الفيلة تقدم لنا درسا نقيا في فلسفة الحياة:

ليس المهم أن تكون قويا، بل أن تكون مسؤولا.

ليس المهم أن تتحرك، بل أن تعرف متى تتوقف ولمن.

من المشاهد التي تخطف القلب في الفيلة أيضا، أنها حين تشعر بدنو أجلها، تغادر القطيع بصمت، وتسير إلى مكان بعيد لتموت وحيدة.

هي لا تهرب من الموت، بل تحترم الحياة، ولا تريد أن تثقل ذاكرة صغارها بصورة العجز والضعف.

لا تطلب وداعا صاخبا، بل تختار الصمت الأخير بكل هدوء، وتغادر بشهامة الكبار.

أيّ رقيّ هذا؟ وأيّ روح تلك التي تنظم مشهد الرحيل بهذا النبل والكرم العاطفي النبيل؟

العالم اليوم يمتلئ بالكتاكيت الصاخبة التي لا نبالي بها، وقلّت الفيلة الهادئة، الرحيمة، المتأملة، النبيلة.

تحولت قوتنا إلى طغيان، وشهرتنا إلى ضوء يعمي الأبصار لا يكشف الحقائق.

وبين هذا وذاك، تبدو الفيلة كائنات غريبة، أو منقرضة، بسلوكها النبيل، وحسها المرهف، ووداعها البديع.

نحن بحاجة إلى “قوانين الفيلة” في التربية، والإعلام، والقيادة، والتعليم، وكل مناحي الحياة.

نحتاج أن نعلّم أبناءنا أن يتوقفوا حين يشعرون بضعف الآخرين، وأن يُدركوا أن الأثر لا يُقاس بالقوة والصوت العالي، بل بخفة الظل، والنوايا الحسنة، والخطوات المحسوبة.

وأن نغرس فيهم أن العظمة ليست في أن نملأ المكان ضجيجا، بل في أن نترك خلفنا أثرا لطيفا لا يُنسى، وأمانا لا يُهدد حياة أحد.

أتذكر أناسا كانوا يتباكون على المنابر، ثم سحقوا بأفعالهم كل من لا صوت له.

وأتذكر مشاهير كانوا يتغنون بالإنسانية، ثم تنمروا على من يختلف عنهم.

وأتذكر مفكرين كانوا يحاضرون في الرحمة، ثم سقطوا في أول اختبار لها.

كل هؤلاء، وأكثر، بحاجة إلى جرعة مركزة من وعي الفيلة.

لأن الوعي الحقيقي لا يُقاس بما نقوله على المنابر، بل بما نفعله حين لا يرانا أحد، حين يكون الضعيف تحت أقدامنا، لا فوق أكتافنا.

الكبار لا يصرخون، بل يمشون بخفة، ويتركون أثرا يُحس في القلوب، لأنهم يعلمون أن الهيبة لا تُشترى بالصوت، بل تُزرع بالمواقف الهادئة والعقول الراجحة.

لا يحتاجون إلى ضجيج ليثبتوا حضورهم، يكفي أن تظل ذكراهم دافئة في الوجدان حتى بعد رحيلهم.

يمشون كما تمشي الفيلة، بلا عناء، وكأنهم يقولون:

“ليست العظمة في أن نتحرك، بل في أن نعرف متى نتوقف، ولأجل من “.

الفيلة لا تطلب شيئا لنفسها، لكنها تدرك أن في ضخامتها خطرا على الآخرين، فتتوقف.

تتوقف، لأن الوعي بالحجم مسؤولية، ولأن العظمة الحقيقية تكمن في إدراك الضرر قبل أن يقع.

تتوقف، لأنها تعرف أن القوة لا تعني المرور فوق الضعفاء، بل الانتباه إليهم قبل أن تسحقهم الخطى.

في زمن يفيض بالصخب، وتغمره الآراء والانفعالات، وتصرخ فيه الشاشات، وتثرثر المواقع، لا شيء أبلغ من صمت الفيلة الرحيم؛ ذلك الصمت الذي يعلّمنا أن القوة ليست في السحق، بل في تجنّبه،

وأن أرقى مراتب العظمة هي أن تمشي عظيما بين الناس دون أن يشعر الضعفاء بثقل قدميك.

من يملك القوة عليه أن يتواضع، ومن يملك الشهرة عليه أن يعي أنها مسؤولية، لا امتياز.

ومن يتصدر الصفوف الأمامية عليه أن ينتبه لمن خلفه، ومن تحته، ومن يملك القيادة عليه أن يكون صمّام أمان، لا مصدر خوف، فالعظمة الحقيقية تكمن في حماية الضعفاء، لا في إذلالهم أو تجاهلهم.

ومن يدرك هذا فقط، يستطيع أن يبني الثقة، ويزرع الأمل، ويخلق بيئة تنمو فيها القيم النبيلة، فتتفتح فيها زهور الرحمة والعدالة في كل زاوية من حياة الناس.

مجتمعنا يربي أبناءه ليكونوا “أسودا”، و”نمورا”، و”ذئابا” مفترسة، وينسى أننا لا نحتاج إلى مزيد من المفترسين، بل إلى حكماء أقوياء كالفيلة.

فالحكمة في القوة تضيء الدروب، والمروءة في العظمة تبني الأجيال، وليس العنف عنوانا للرجولة، ولا الغطرسة دليلا على نبل الرجال.

قد يبدو غريبا أن يُقال لإنسان: “كن فيلا”،

لكن في عالم يعلو فيه الصخب، وتغيب فيه الرحمة، نحتاج من يحمل القوة بصمت، والمروءة بثبات، والحكمة في كل خطوة.

ففي زمن تتنازع فيه الأصوات، وتعلو فيه الأنا، لا يُحدث الفرق من يصرخ أو يستعرض قوّته، بل من يختار الرحمة وهو يملك القوة، ويصمت وهو يملك الحق، ويتوقّف حين يعلم أن خطواته القادمة قد تسحق من لا صوت لهم.

فالامتحان الحقيقي للعظمة هو أن تملك القوة كلّها، ثم تختار ألّا تستخدمها، لأنك ترى في الرحمة أعظمَ انتصار.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫2 تعليقات

  1. روووووعة .. راقني كثيرا
    المقال لوحة إنسانية مؤثرة استخدم فيها الكاتب مشهد الفيلة والكتاكيت ليقدّم درسًا عميقًا في الرحمة الواعية الفيل القوي يتوقف لأنه يشعر بمسؤوليته تجاه الضعيف لا خوفًا بل احترامًا للحياة وهكذا يجب أن يكون الأقوياء بين الناس يدركون أثر خطواتهم ويتصرفون بوعي وصمت نبيل

    المقال دعوة لأن تكون القوة حماية لا تهديدًا وأن يكون التواضع اختيارًا من يملك القوة لا يحتاج أن يصرخ بل أن يتوقّف حين يكون في حركته أذى لمن تحته

  2. ليس المهم أن تكون قويا، بل أن تكون مسؤولا.

    ليس المهم أن تتحرك، بل أن تعرف متى تتوقف ولمن.

    مقال جميل فيه معلومات قيمة عن الفيلة كأنني أول مرة أقرأها ، يالك من مفكر كبير مطلع ، نغبط أنفسنا على وجودك معنا يابو سلطان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى