صوتٌ يُطرب، وسوطٌ يُرعب.

أحمد السالم الجكني
صوتٌ يُطرب، وسوطٌ يُرعب.
لكل سطوة بابًا، ولكل باب مفتاحًا، ولكل مفتاح صاحبًا، فمن الناس من يُطاع لحب، ومنهم من يُخشى لرعب، وبين المحبة والمهابة درجات، وبين القبول والقهر مفازات، والسعيد من نال القلوب طواعية، ولم يحتج إلى قيد ولا عصا، والشقي من حكم الأجساد، وأغلق على الأرواح باب الرجاء.
إن السطوة ليست مذمومة بإطلاق، ولا محمودة على العموم، بل يُنظر في سببها، ويُتأمل في طريقتها، فإن اقترنت بالرحمة، كانت نعمة، وإن اجتمعت بالقهر، صارت نقمة، وهي على ضربين: سطوةُ اللين، وسطوةُ البطش، فأما الأولى، فتقع على القلوب، وأما الثانية، فتنزل على الرقاب، ولكلٍ آثاره، ولكلٍ تبعاته، ولكن العاقبة للأنقى والأبقى.
وفي هذا المقام، نتأمل صورتين متباينتين، وننظر في مثالين متعارضين: طلال مداح، الذي ساد الناس بصوته لا بسوطه، وأحبوه لحسنه لا لخوفهم، وفرعون مصر، الذي حكم قومه بالخوف، وصعد على أكتافهم بالرهبة والقسر.
أما طلال، فكان سلطانه الصوت، وسلاحه اللحن، وحصنه الوجدان، لا يملك تاجًا يُهاب، ولا جيشًا يُقاتل، ولا منصبًا يُناط به أمر أو نهي، ومع ذلك، ساد من غير عنف، وامتلك من غير عسكر، ونفذ إلى القلوب من غير استئذان، إذا غنّى، خشعت الأنفاس، وسكنت الجوارح، وتهادت الأرواح في مرابع الطرب، دخل البيوت بلا جند، واستقر في النفوس بلا قيد، فما اختلف الناس في أثره، ولا تفرّقوا في محبته، فسلطانه في القلوب باقٍ، وإن غابت الجوارح، وذكره حي، وإن فني الجسد، وهذه سطوة لا تُكتسب، بل تُمنح، ولا تُنتزع، بل تُوهب.
وأما فرعون، فكان سلطانه الخوف، وسلاحه الكذب، وسياجه السوط، أقام ملكه على إخضاع العقول، وإفقار النفوس، وإرهاب الأجساد، لا علم نشر، ولا عدل أقام، ولا رحمة بسط، كان يطعمهم الجهل، ويسقيهم الرهبة، ويمنع عنهم النور، ويقودهم بالعمى، يقول: “ما أريكم إلا ما أرى”، ويمنع عنهم أن يروا سواه، فإن سأل سائل، أُخضع، وإن اعترض معترض، أُقطع، حتى صار الخوف عادة، والسكوت طاعة، والعبودية دينًا، لا فرق فيها بين الجسد والروح، ولا بين العقل والغريزة.
فشتّان بين رجل أحيا القلوب بنغمه، ورجل أمات الأرواح بسوطه، وشتّان بين من وحّد الناس على محبته، ومن فرّقهم على رعبه، وبين من بنى فيهم ذاكرة الحنين، ومن خلّف فيهم جراح السنين، هذا رقّت له الأرواح، وذاك خنقت به الأنفاس، هذا أبكاهم ليطهّرهم، وذاك أرهبهم ليحطّمهم، هذا رُفع بالحب، وذاك سقط بالكُره.
وإن قيل: من الأقوى؟ قيل: من بقي ذكره، وإن قيل: من الأشد أثرًا؟ قيل: من سكن في القلوب لا من قهرها، فليس العبرة بالسطوة، بل بما تُثمره، ولا بالقوة، بل بما تتركه، فمن أطرب الناس، كان أحب إليهم ممن أرعبهم، ومن أحيا فيهم الشعور، كان أولى بالذكر ممن دفنه.
فالسطوة، وإن تشابهت في ظاهرها، اختلفت في حقيقتها، وإن اجتمعت في أثرها، تباينت في طريقتها، وشتّان بين صوت يُطرب، وسوط يُرعب.
كاتب رأي
قال أبو الخطّاب:
السطوة التي تُبنى على الحب، تُخلّد، والتي تُبنى على الخوف، تُبدّد.