كُتاب الرأي

شدة القرب حجاب

سلطان عيد المرشدي

شدة القرب حجاب

نسمع أصواتهم وتأففهم وتذمرهم من حولنِا مستائين ضيق الحال وقسوته رغم تنعمهم ورغد عيشهم! وما كان ذلك إلا عندما امتدت أبصارهم لما عند غيرهم  (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فهؤلاء ألفوا النعم واعتادوا عليها وانغمسوا في ملذاتها الكثيرة حتى ظنوا أنها لن تغادرهم، أو ربما لم يعودوا يرونها وهي أمام أعيُنهم وبين أيديهم وبأيمانهم، فشدة القرب حجاب! ولربما يوقظهم من غفلتهم النظر لمن حولهم في تكبُد المشاق لتوفير أدنى مقومات الحياة، وكأن آخر أمنياتهم الحصول على لُقمة عيشٍ يسدون بها رمق جوع صغارهم.

  وأثناء التأمل في حال من يعيشون رغد العيش ولم تملأ أعيُنَهم وأنفسهم تلك النعم التي يتنعمون بها وبين أولئك الفقراء، مرَّ بشريط ذاكرتي صورة ذلك الرجل التي لا تغيب عن عيني لِما صاحبها من أحداث جِسام ينّدى

لها الجبين، كان مستور الحال يتقاضى مرتبًا زهيدًا، صبر كثيرًا وتعفف عما في أيدي الناس، فغاب عمَّن حوله ما يقاسيه ظنًا منهم أنه في سعة ودعة، حتى خَبُت ما لديه فافتقر، وانتهى به الحال خلف القضبان حين لم يستطع الوفاء بديونه المتراكمة، فباتت أسرته دون معيل وتشردت من بعده وانقلبت حياتهم رأسًا على عقب، وكان بالإمكان تدارك ذلك من قِبل الأصدقاء والأقارب.

     فرغم ماتقدمه الدولة لميسوري الحال من خدمات جليلة من خلال البرامج المقدمة لهم إلَّا أن بعض الأسر قد تفتقر لأسباب منها ما يكون بسبب ديون سابقة متراكمة لم توفَّ أو لغياب المعيل القائم على الأسرة، وتارة قد يسلك الأب طريقاً منحرفاً فيصرف قوت أولاده فيما لا ينفع أو لظروف صحية تعاني منها الأسرة، وغيرها ممّا لا نعلمه ولا ندركه، ممّا يجعل بعض تلك الأسر تشكوا من ضيق الحال والعوز، فما أقبح الفقر وما أجمل الفقراء.

يمشي الفقير وكل شيء ضده ،،،

                       والناس تغُلق دونه أبوابها ،،،

     فأين أولئك الذين قد ألفوا النعم وغيرهم ممّن أسبغ الله عليهم لتلمس حاجات أقاربهم وجيرانهم وأهل حيّهم ومدّ يد العون لهم، وما أكثر المتعففين المحتاجين من حولنا الذين لايسألون الناس إلحافاً.

قد يأكلون لفرط الجوع أنفسهم،،،

                      لكّنهم من قدورِ الغير ما أكلوا!

     عدم تلمس حاجاتهم دخيلةٌ على مجتمعنا المسلم المترابط، فقد استوقفتني حادثة في زمنٍ مضى، حيث كان لقريشٍ عادة تسمى (الاعتفار)، وهي الحكم على الأسرة التي تعاني الفاقة فلا تجد ما يسد جوعها أن تُنفى خارج المدينة لمكانٍ منزوٍ قريب من مكة! فتتضور جوعًا حتى يُخيم صمت الموت على المكان، فلا يسمع الأغنياء صوت أنينهم وبكاء أطفالهم وقرير بطونهم، ولم تهتز لهم شعرة لما وصل إليه حالهم وكأنهم حكموا عليهم بالموت في هذه الخيم، فقد نُزعت الرحمة من قلوبهم وكأن الفقر جريمةٌ قصاصها الموت!

        مرت السّنون على هذا الحال وكلما افتقرت أسرة انزوت في خيم الاعتفار حتى تموت وتفنى دون أدنى مسؤولية من الآخرين، حتى قيّض الله لهؤلاء الفقراء رجلاً ذا حكمةٍ ورأيّ سديدٍ، وأنهى هذه المُعضلة التي كادت أن تُنهي قبيلة كاملة وتفنيها، عندما هرع هاشم -جد النبي صلى الله عليه- فقام فيهم خطيبًا وقال: إنكم أحدثتم حدثًا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم، فألحق فقيرهم بغنيهم، وسنَّ لهم رحلة الشتاء والصيف للتجارة.

هذه حادثة منذ قديم الزمن، فهل انتهت حقًا؟ أم أتتنا في ثوبٍ جديدٍ يليق بالعصر؟  فكم نجد في زمننا هذا أنُاسٌ اعتفروا واعتزلوا الحياة بسبب ظروفهم القاسية، وقد اضمحلت أمنياتهم تحت خيم الاعتفار، فهل نتركهم للموت البطيء المُحتم وهم الذين اختاروا العزلة والتعفف عمّا عند الناس؟ فأسوأ من الفقر؛ الأبواب التي تُغلق في وجوه الفقراء.

     أدركوهم قبل أن يهتك الفقر سترهم فينكشف حالهم ومآلهم أمام أعيُن الناس، واستروهم بستر العفاف والغنى دون منٍّ أو أذى، ومزقو خيم الاعتفار قبل نصبها، ولا تألفوا النعم حتى لا تفقدوها، ولعلّ أفضل طرق شكر النعم أن تمدَّ يد العون لمن حُرم منها.

إِذا جادتِ الدنيا عليكَ فجُدْ بهـا.. على الناسِ طرا إِنهـــــــا تَتَقَلَّـــــــــبُ

فلا الجودُ يفنيها إِذا هي أقبلتْ ..  ولا البخلُ يُبْقيها إِذا هي تَذْهَبُ

كاتب رأي 

سلطان عيد المرشدي

صحفي ، مؤلف ، كاتب رأي ، عضو هيئة الصحفيين السعوديين ، عضو الجمعية السعودية للارشاد النفسي بجامعة الاميرة نورة ، مرخص من الهيئة العامة لتنظيم الإعلام ، وثيقة عمل حر كاتب وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ، صدر للمؤلف كتابين آصِرة وغرفة ١٧ .

‫4 تعليقات

  1. مقال رائع
    احسنت الطرح أستاذ سلطان
    فعلا هذا ما هو حاصل في زمننا
    الله وحده يغير حالنا لننعم جميعا بحسن الظن بالآخر و مد يد العون دون من أو أذى ٠

    1. شكرا لكم استاذة شقراء ، نعم هذا الواقع نسال الله أن يلطف بكل فقير وان يغنيهم من واسع فضله وان يلهمنا شكر النعم التي نعيشها في كل لحظة .

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أبدعت أبا عيد في كتابة هذا المقال الرائع والمميز.

    فشكرا لك على هذا الجهد والتميز.

    أرجو لك المزيد من التألق والنجاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى