أقلام ناشئة

سُكُون

سُكُون

وسَكَنَ كلُّ شيءٍ في لحظة، صمتٌ خيَّم على الجميع، بعد أن كان المكان ممتلئًا بأصوات الصواريخ والقاذفات، بأصوات إطلاق الرصاص وصوت الموت.

يقف بجسدٍ ينزف دمًا، متجمِّد القدمين ما بين الصدمة والرعب وعدم التصديق، يتأمّل حوله ويفكّر: هل حقًّا انتهى الكابوس؟

ينظر إلى زيه العسكري المغطّى بدمائه ودماء زملائه والأعداء، الملتصق به الطين الممتزج بالدماء، يتنفّس بصعوبة وينظر إلى يدَيْه بتساؤل: أبهاتينِ قتلتُ العديد من البشر!؟

لا يزال غير واعٍ أو مُدرِك لما يحدث، يسمع قائد الكتيبة يصرخ بالجميع أن يعودوا أخيرًا إلى منازلهم، بعد حربٍ طاحنة أدّت إلى العديد من الوفيات والإصابات البليغة والخطيرة، أفقدت العديد من الجنود أطرافهم والبعض فقدوا حياتهم !

يُسقِط سلاحه أرضًا، تتصاعد النيران من حوله، والدخان يغطي السماء بسواده، يخطو بخطواتٍ صعبة ومثقلة ممّا واجهه خلال هذه الحرب التي استمرّت لمدة عامين، أخذ يسير ببطء مطأطئًا رأسه للأسفل، يلمح أشلاءً وأجسادًا لأناسٍ كانوا يقاتلون معه، بعضها جديد، وأخرى متحلّلة ومدفونة تحت التراب تدلّ على أن مدة قد مرّت منذ أن مات صاحبها.

يسير وهو غير مستوعب أنه سيعود إلى بلده بأمان، وأنه سيعود إلى عائلته ومنزله، وسينام براحة بعد عامين من الرعب والقلق!

عادَ إلى قريته أخيرًا، بزيّه العسكري المُهندم بعد أن عُولِجَت جروحه. كان يمشي بسعادة لأنه سيرى والدته وعائلته بعد عامين. أخذ يتخيّل ردَّة فعل والدته، ومدى فخرها بابنها الذي حارب لأجل دولته وحماية شعبه، تخيَّل كيف سترتمي في أحضانه وتبكي فرحًا بعودته، وتخيَّل ابنة أخته التي لم يرها منذ أن كانت في أشهرها الأولى، وكيف سيجدها الآن وقد بلغت الثلاثة أعوام، تمشي أمامه وتناديه!

أسرع بخطواته وعلى وجهه ابتسامة لم يبتسمها منذ سنتين، وشعور بالأمل والفرح لم يذقه منذ اندلاع الحرب، سوى في هذه اللحظة. لمح منازل جيرانه متصدعة وبعضها مدمَّر بفعل الحرب، ورآهم حول منازلهم يبحثون عمّا تبقى من ممتلكاتهم؛ لذلك تزايد أمله أن يجد عائلته أمام منزله ينتظرونه.

اقترب أكثر حتى أصبح أمام منزله… لكن الصدمة أن لا أحد هناك، ولم يبقَ من المنزل سوى أطلالٍ مهدَّمة تساوت مع الأرض، لم يتبقَّ منه سوى الدمار!

تجمَّد في مكانه، لا يريد أن يُفكِّر… شعر بيدٍ تُوضع على كتفه، فنظر جانبًا ليلمح جاره الكهل وزوجته ينظران إليه بأسى. ربت الشيخ على كتفه وكأنه يواسيه، فانطفأت ابتسامته تمامًا حين سمعه يقول:

“صبرًا يا فتى… فما لنا أمام الفقد إلا العزاء.”

أسوَدَّت الدنيا في عينيه حتى خُيّل إليه أن النور قد تلاشى، وسقطت الدموع من عينيه رغمًا عنه، وبدأ يبكي بصمت. هل فقدَ عائلته حقًّا؟ والدته… وأخته… وابنتها الصغيرة ذات الثلاثة أعوام!

جلسَ أمام المنزل يبكي بحرقة وألم، مرَّت الساعات ولا يزال يذرف الدموع، غير قادر على الاستيعاب. لماذا الحياة قاسية معه إلى هذا الحد؟

بكى وبكى وبكى… حتى شعر أنه على وشك الموت من شدة البكاء. استلقى على الأرض أمام المنزل المدمَّر، ونظر إلى السماء بعينين مُنهَكتين من الدموع، وهو يردد بصوتٍ مبحوح:
{ يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نَسِيًّا مَّنسِيًّا }.

بقلم ✍️ جنى بدر الحربي

جنى بدر الحربي

كاتبة رأي

‫5 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى