كُتاب الرأي

زهرة أكتوبر

 

عندما ينظر المرء إلى الزهور يتذكر الجنات ، التي وعد الله بها المتقين ، وما أسعدها من لحظات تلك التي يتخيل فيها المسلم أنه في جنات النعيم ، لكن ليس هذا حديثنا اليوم ، نحن اليوم بصدد الكتابة عن زهرة من الأزهار الجميلة ، زهرة إن تفتحت أنعشت الجو ، وملأته رائحة زاكية ، منعشة، تشابه شذى الخزامى.
إنّ الإحساس الجمالي له حضوره الآكد في حياتنا خاصة حين نستنشق روائح عطرية ، تملأ الرئة زينة وجمالاً وتمنحها الصحة والعافية، وتعطي المرء حركة واسعة داخل حقل النضارة والوسامة فتبهج نفسه ، وتتسع فرحته ، وتدوم ابتسامته.
لكن يظل الأثر البالغ داخل حقل الزهور أن ترى لكل وردة أو زهرة دورها الذي يكمل الأخرى، فالنرجس، والياسمين، والريحان، والسوسن، والخزامى، والأقحوان ، والبنفسج ، والكافور ، والنيلوفر العطر ، إلى غيرها من أنواع الزهور تزيد من انعكاس الجمال على الحقل، وتوفر مساحة للمتعة والانشراح.
وبما أن حديثنا يدور عن الحقل، والزهور؛ فإنّ المستشرقة الألمانية آنا ماري ترى أنّ الزهور والنباتات حين يكتسي المكان بها ، سوف تنبعث منه الحياة ، وتزاد الأنفس تفاؤلاً ، ويظهر البِشر ( بكسر الباء وتسكين الكاف) أقول يظهر البشر على النفس، وتُنفخ في الروح الآمال ، والطموحات ، وتتحول الأحلام إلى واقع محسوس، كأنها رأت أشياء لم يرها الكثير من خبراء الفن والجماليات، لقد عبرت عن امتنان سامي أفصحت عن العطاء الذي تعطيه الورود للإنسان هكذا رأت وبهذه الصورة عبّرت عن جزء من جماليات الدنيا.
أما نحن فإن لدينا زهورًا من نوع آخر، زهورًا تحترق من أجل أن يضيء العالم بأكمله، هذه الزهور تتمثل في المعلمين والمعلمات الذين يزخر بهم حقل التعليم، هذه النماذج النادرة التي تبعث فينا التفاؤل والأمل.
في كل عام يحتفل العالم بزهرة أكتوبر، في كل عام تطل علينا وسائل الإعلام بتقارير تحتفل بالمعلم، والمعلمة.
هذه الكائنات اللطيفة لها القدرة على إضاءة عتمة الطريق، لها القدرة على التحمل والتجلد، لها القدرة على منح الآخر شعورًا بالامتلاء والزهو والفخر بنفسه، هم من ينير العقل، ويوقد شمعة الأمل، هم من يمنحون رائحة للمكان، والزمان.
لقد استطاع المعلم أن يمنح العالم بأكمله النور، بإخلاصه المتعاظم، وعمله النبيل.
استطاع المعلم أن يصل بالمجتمعات إلى التحضر والمدنية، وترسيخ الثقافة العلمية والأخلاقية، وحتى الأدبية، حيث أحدث ثورة فكرية، ومهارية، وعلمية.
لقد أثبت المعلمون والمعلمات على مر العصور، وتعاقب الدهور، أنهم رسل سلام، يملكون أقلامًا تشابه أغصان الزيتون، وأرواحًا نقية، وقلوبًا صافية، لا يخالطها رياء ولا تبحث عن سمعة، ولا ترجو شيئًا من الدنيا بأكملها إلا ابتغاء مرضاة الله.
يعملون جاهدين على إرساء قواعد العلم والمعرفة، وتحقيق المستهدفات، ونشر التطور، وقيادة التغيير، إنهم السلاح الأقوى على الإطلاق، يستطيعون النهوض بالأمم، والمضي بها نحو التقدم والنمو والإزهار.
حقيقة لا يمكننا إنكار الدور الذي يقوم به المعلم ، والجهد الذي يبذله ؛ فالرسالة التي يحملها ثقيلة والأمانة أكثر وزنًا ، والمهمة ليست كما يتصورها البعض، فكما هو معلوم أن المعلم ليس عمودًا فقريًا فحسب بل هو الحبل الشوكي لمنظومة العمل التربوية والتعليمية ،من غيره لا يمكن أن تنفذ السياسات التربوية ، ولا يمكن أن تقوم التوجيهات التعليمية ، ولا يمكن أن تنجح الأدلة التفسيرية والإجرائية ، إنهم ضمن الأسباب الوجيهة في تأصيل الأمانة ، والإخلاص ، والمرح ، والصدق ، والاعتدال ، والوسطية ، إنهم يعملون باجتهاد لتقوية العلاقات والصلات بين المتعلمين ، وهم من يبث روح الحماس ، والجد ، والاجتهاد ، والمثابرة في نفوس الطلاب ، كما أنهم الرقم الصعب في عملية الاستمرارية والاستدامة ، نظرًا لأنهم أركان رئيسة في كل جزء من جزئيات تقدم المجتمعات.
إنهم فئة متطورة للغاية ، ومزدهرة فكريًا ومهاريًا، أفكارهم لا تهدأ ولا تستكين، يشعرون بالمسؤولية حتى لو لم يكلفوا بها ، ونعني بها المسؤولية الاجتماعية، لذا لا يعتقد البعض أن دورهم ينتهي بانتهاء الحصة الدراسية أو شرح المنهج ، لا !! إن دورهم أبعد من هكذا تصور ، بل أنه يمتد إلى معالجة قضايا اجتماعية ، وتربوية، لأنهم فئة شديدة الحساسية تجاه مستقبل الطلاب ، ويهمهم استقرار الطالب ، لضمان وصول التوجيه على الوجه الأمثل.
يتمتعون بحسية عالية نحو رسالتهم ، لا تجد البغضاء طريقًا لها ؛ حتى تفكر في أن تخترق انتمائهم نحو مهنتهم ،أما مظاهر الكراهية فإنها تقف عاجزة على الاجتراء في أن تخلق ثقبًا يسيرًا في نظامهم الأخلاقي.
لقد أثبتت جميع الدراسات النفسية والتربوية والاجتماعية ، والأخلاقية أن المعلمين والمعلمات عملة نادرة عن غيرهم من المهنيين، كونهم يعملون على تحسين معارفهم المهنية، وكفاءتهم ، ومهارتهم ، وفاعليتهم بصورة مستمرة، كما نجدهم يطلعون كثيرًا على أحدث الدراسات التي تهتم ببناء الفكر ، وتعزز بقاءهم في دائرة الأبحاث الحديثة، وتزيد من فرص التواصل مع زملائهم مما يجعل عملهم أعلى مرونة ، وأقل صعوبة، نجدهم أيضا يطورون من أدواتهم بالالتحاق بالندوات والورش والمجتمعات المتعلمة ، والمؤتمرات ، ويناقشون أحدث الدراسات مع أقرانهم ، أي أنهم مدارس متطورة تعمل على إبقاء النفس في حالة نشاط دائم.
انتهى

علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي وإعلامي

‫2 تعليقات

  1. لقد أبدعت أستاذ علي في تسليط الضوء على دور المعلمين والمعلمات ، وكأنهم زهور تنير الحياة بحضورهم وتأثيرهم . أسلوبك الشعوري في التعبير عن محبتهم وتقديرك لجهودهم يبعث الأمل والتفاؤل في النفوس. بالفعل، هم من يضيئون الطريق ويمنحوننا المعرفة والامتياز ، ويستحقون كل تكريم وتقدير .
    لافض فوك👍

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى