زهرةٌ واحدة… وألف شعور

زهرةٌ واحدة… وألف شعور
في إحدى الضواحي الهادئة، حيثُ يلامس النسيم العليل أوراق الشجر برفق، وتعبق الأجواء بروائح الأزهار المتفتّحة، عاشت فتاةٌ في السابعة عشرة من عمرها تُدعى رُبى.
كانت رُبى فتاةً مرهفة الحس ، مفعمةً بالحياة، تُشرق ابتسامتها كلما اقترب فصل الربيع. فقد كان لهذا الفصل في قلبها مقامٌ خاصّ، إذ وجدت في نسماته الرقيقة وأزهاره المتفتحة عالمًا يُشبه روحها المُرهفة. كانت تقضي معظم وقتها بين صفحات الكتب تقرأ عن الأزهار وعجائبها ، وتُكرّس جزءًا كبيرًا من يومها للعناية بالنباتات، وكأنّها تؤمن بأنّ في كل ورقةٍ خضراء حياةً جديدة تنمو معها.
حين يطرق الربيع أبواب الكون، تتحوّل رُبى إلى عاصفةٍ من الفرح، تجوب أنحاء المنزل كفراشةٍ لا تهدأ، تُزعج أفراد أسرتها بأسئلتها المتكرّرة حول موعد تفتّح الأزهار، وتُزيّن أركان البيت بضحكاتها المرِحة. صار مألوفًا لديهم أنّ بهجتها تلك إعلانٌ صامتٌ عن اقتراب الربيع، قبل أن يُزهر أوّل برعم.
ورغم هذا الحماس المُنطلق، لم يُدرك أحدٌ منهم سرّ ولعها العميق بالربيع. ففي حين كان أفراد أسرتها يفضّلون هدوء الشتاء وأجواءه الحالمة، كانت هي تترقّب الربيع كأنه وعدٌ بعودة الروح.
كان السبب بسيطًا، لكنه متجذّرٌ في أعماق قلبها: إنها الأزهار.
لم يكن افتتانها بها مجرّد حبٍ لجمالها الزائل، بل رأت في كل زهرةٍ حكايةً من حكايات البقاء، رسالةً صامتةً بأنّ الحياة تتجدّد مهما اشتدّت قسوتها.
رغم هذا الشغف الجارف، كانت رُبى تُجابه سخرية أسرتها. لم يفهم أحدٌ منهم كيف لزهرةٍ أن تمنح قلبها كلّ هذا الفرح. تساءلت في نفسها مرارًا:
“أما آن لهم أن يُدركوا كم تعني لي الأزهار؟ هل أوضحتُ لهم بما يكفي، أم أنّ الأمر لا يعنيهم؟”
وفي صباحٍ هادئ، أشرقت الشمس خجلى من خلف الأفق، معلنةً حلول فصلها المنتظر. كان الجميع يتوقّعون أن تنطلق في أرجاء المنزل مبتهجةً، كما تفعل دائمًا، غير أن ما حدث كان أبعد ما يكون عن المألوف.
استيقظت بروحٍ منكسرة، وبقلبٍ يُثقله الحزن. لم تسمع الأسرة صوت خطواتها المُبتهجة، ولم تهرول إلى حديقتها كما اعتادت. وبدلًا من زخم الحماس، خيّم صمتٌ غريب على المنزل.
خرجت من غرفتها بخُطى مُتثاقلة، واتجهت إلى المطبخ. تناولت كوبًا من الماء، تشربه ببطء وكأنها تُحاول ابتلاع مرارةٍ تسكن صدرها. تطلّعت إليها والدتها مليًا، وتبادل إخوتها النظرات الحائرة، لكنها تجاهلت الجميع.
بعد دقائق، دوّى صوت طرقاتٍ خافتةٍ على الباب. كان والدها.
– “هل يمكنني الدخول، صغيرتي؟”
كان صوته حانيًا، يخفي في نبراته قلقًا متزايدًا. فتح الباب ببطء، لكنه حين رأى ابنته غارقةً في التأمّل أمام زهرةٍ ذابلة، انتابه الذعر. ابنته التي كانت كالربيع نفسه… كيف تحوّلت إلى هذا الظل الحزين؟
اقترب منها بحذر، لكنّها استدارت فجأة، وصرخت بصوتٍ مرتعش، وكأنّها كانت تُقاوم ألمًا يفيضُ عن طاقتها. هرع أفراد الأسرة إلى الغرفة في فزعٍ، ظنًّا منهم أنّ أمرًا جللًا قد حدث.
تداركت رُبى انفعالها سريعًا، واعتذرت منهم قائلةً:
– “لم أشعر بوجودك يا أبي… لقد كنت غارقةً في أفكاري.”
تظاهروا بتجاهل الأمر وطلبوا منها أن تلتحق بهم على مائدة الفطور. لكنّ هدوءها الغريب ونظراتها الشاردة أثارت ريبة الجميع.
وحين شارفت على الانتهاء، رفعت رأسها أخيرًا بنظرةٍ ثاقبة، وألقت كلماتٍ بدت كأنّها تخرج من أعماق قلبٍ موجوع:
– “لقد ماتت زهرتي… الزهرة التي اعتنيت بها طيلة الشتاء. كانت أكثر من مجرّد نبتة… كانت صديقتي، وشعرت معها بالأمان…”
كانت كلماتها ترتعش بألمٍ دفين، وما هي إلا لحظات حتى انهمرت دموعها بغزارة، وكأنها أخيرًا أطلقت سراح حزنها المكبوت.
نهضت بسرعة، وهرعت إلى غرفتها قبل أن يتمكّن أحدٌ من منعها. همّ أخوها بالنهوض للحاق بها، غير أن يد والدها أوقفته برفقٍ وهو يقول:
– “دعها يا بني… تحتاج لبعض الوقت، فهي غارقةٌ في الحزن.”
وبينما غرق الجميع في النوم تلك الليلة، ظلّ والدها مستيقظًا، يُفكّر بابنته وذاك الحزن العميق الذي احتلّ قلبها. أما هي، فبقيت في غرفتها تتساءل:
“الأزهار لاتموت بل تتجدد كل يوم فلماذا زهرتي ذبلت وفقدت الحياة
ظلّ السؤال معلقًا في قلبها كالزهرة الذابلة… تُرى، هل يُمكن للربيع القادم أن يُعيد إليها بهجة الحياة؟
وبعد مُضِيّ عدة أشهر…
حلّ يوم ميلادها الثامن عشر، اليوم الذي يُفترض أن يكون مليئًا بالفرح، لكنه جاء هذا العام محمّلًا بذكرى زهرتها الراحلة.
ورغم أن فقدانها لزهرتها قد ترك أثرًا عميقًا في قلبها، إلا أن حبّها للربيع لم يذبُل. بل على العكس، ازدادت تعلقًا به بعد أن قضت شهورًا تبحث وتتعلم.
أدركت حينها أن رحيل زهرتها لم يكن إلا دورةً طبيعيةً للحياة؛ إذ لكل زهرة فصلٌ تنبض فيه، وحين ينتهي فصلها، تغفو بهدوء. ولم يكن موت زهرتها خطأ منها، بل كان حتمية طبيعية لا مفرّ منها.
أثّر هذا الفهم في قلبها بشكلٍ عميق.