
*زلّة عالم بالملايين *
في كل مجتمع، نلتفت إلى العلماء والأفاضل كما نلتفت إلى النجوم في السماء، نستنير بهم في عتمة الطريق، ونستقي من كلماتهم الهدى والبصيرة. ومن بين هؤلاء الأفاضل شيخٌ وقور، جمع بين العلم بالدين، والتفسير العميق للقرآن، والنصح الحكيم للناس. عرفه الجميع بالزهد والورع، وكان قدوةً صالحة في الأخلاق والتواضع.
لكنّ الحياة ليست ساحةً للثبات وحده، بل هي ميدانٌ تتجدد فيه الابتلاءات. ذات يوم، اختار هذا الشيخ أن يخوض مجالًا لم يألفه من قبل؛ فدخل عالم التجارة والاستثمار. وبشيء من الطيبة التي ظنّها حُسنًا، استدان أموالًا طائلة، وغامر بها في سوق لا يرحم من يجهله. فكانت النتيجة خسارة بالملايين، والتزامات مالية ستلازمه ما تبقى من حياته.
وعندما واجهه بعض المقرّبين: “ما الذي دفعك إلى هذا؟ وأنت الذي نذرت حياتك للعلم والدعوة والنصح؟”
ابتسم بمرارة الحكيم وقال: “كنت أوجه الناس، وغاب عني قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ)؛ فإذا بي في هذه الحال كالسفيه الذي لم يُحسن التصرف.”
أيّ صدقٍ هذا الذي يجعل العالم يعترف بخطئه علنًا؟ وأيّ درسٍ أعمق من أن نرى مَن كان يعلّمنا الحذر يقع في غفلةٍ إنسانية؟ إنه تذكير قوي أن الكمال ليس للبشر، وأن كل إنسان معرّض للزلل، حتى لو كان من أعظم أهل العلم.
إن الدروس والإرشادات التي يهمس بها الموقف
1. اعرف مجال قوتك، ولا تخرج عنه إلا بعلمٍ ودراية.
فليس من الحكمة أن يترك الإنسان رسالته التي يجيدها، ليخوض ميادين لا يتقنها. العلم والتخصص نعمة، والنجاح قرين التركيز لا التشتت.
2. المال أمانة لا مجرّد رقم.
حين يغيب الوعي، قد نصبح – من حيث لا نشعر – كالسفهاء الذين نضيّع أموالنا فيما لا نفقه. وإدارة المال لا تقل أهمية عن كسبه، بل قد تكون أصعب.
3. الاعتراف بالخطأ شجاعة.
الشيخ لم يُبرّر خسارته، ولم يختلق الأعذار، بل واجه الناس بصدق. وهذه قيمة اجتماعية نفتقدها؛ فكم من الخاسرين يحمّلون غيرهم المسؤولية، بينما أول الطريق للإصلاح هو الاعتراف.
4. الزهد لا يعني الغفلة.
قد يظن الزاهد أن المال شأن دنيوي لا يستحق الاهتمام، لكن الحقيقة أن حسن التدبير جزء من الدين، وأن المال وسيلة للخير إن أُحسن توظيفه.
5. التجربة لا تُهدم صاحبها، بل تُعيد صياغته.
خسارة الشيخ لم تنتقص من علمه ومكانته، بل جعلته أكثر إنسانية، وأكثر قربًا من الناس؛ لأنه صار يعرف مرارة الضعف مثلهم.
هذه القصة ليست عتابًا لشيخٍ جليل، بل نافذة لنا جميعًا. فكم من الناس يتركون ما يحسنون، لينجرفوا وراء بريقٍ لم يُخلقوا له! وكم من شاب يسعى وراء الثراء السريع، متجاهلًا أن الاستقرار الحقيقي ليس في وفرة المال، بل في حسن إدارته وصيانته من الضياع.
إن الوعي المالي جزءٌ من وعينا الاجتماعي، والتربية على حسن التدبير ينبغي أن تبدأ من بيوتنا ومدارسنا، مثلما نربي أبناءنا على الأخلاق والإيمان. فالوعي لا يقتصر على الدين والفضيلة، بل يشمل حسن التعامل مع الدنيا بقدر ما يشمل الاستعداد للآخرة.
لقد خسر الشيخ ماله، لكنه كسب درسًا خالدًا يرويه للناس: “لا تضع نفسك في موضعٍ لست له أهلًا، فالمال إذا أُهمل صار وبالًا، والعلم إذا غاب عن صاحبه لم يعصمه من الخطأ.”
وهكذا، تظل التجارب الصعبة منارات وعي، تُذكّرنا بأن الحياة امتحان دائم، وأن الخطأ ليس نهاية المطاف، بل بداية جديدة لمن أراد أن يتعلّم.