كُتاب الرأي

زلة قلم… أم تاريخ بأكمله

زلة قلم… أم تاريخ بأكمله

في زمنٍ غلب فيه اللسان على الميزان، وكثر فيه الخائضون في التاريخ والأنساب بغير علمٍ ولا دراية، بات لزامًا أن نذكّر بأنّ هذين الميدانين من أدقّ العلوم وأخطرها أثرًا، لا يقتحمهما إلا من طالت دربته، وتهذّب فكره، واستضاء قلبه بمصادرٍ موثوقةٍ ورواياتٍ صحيحة.

فليس كل من روى قصةً مؤرخًا، ولا كل من حفظ أسماءَ الآباء نسّابةً، إذ العلم لا يُنال بالهوى، ولا يُؤخذ بالظن، وإنما يُبتغى بالدراسة والتمحيص والصبر على البحث الطويل.
قال الله تعالى:

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].
فهذه الآية ميزان عدلٍ في كل قولٍ يُقال، وتحذيرٌ من أن يتجرّأ المرء على ما لا يُحسن.

وقد صحّ عن النبي ﷺ أنه قال:
«كفى بالمرء كذبًا أن يُحدّث بكل ما سمع».
فكيف بمن يتحدث في أنساب الناس وتاريخهم، وهما مما تتعلق به الكرامة والمكانة، ويُبنى عليهما الاعتزاز والانتماء؟
ولما أراد حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يردّ على مشركي قريش بشعره، قال له النبي ﷺ:
«يا حسان، اهجُ المشركين، وجبريل معك»،
ثم قال له:
«سل أبا بكرٍ عن أنساب القوم، فإن أبا بكرٍ أعلمهم بأنسابهم».
(رواه البيهقي وغيره).

فانظر كيف لم يُطلق النبي ﷺ حسانًا ـ وهو شاعر الإسلام ـ ليتكلم بغير علم، بل وجّهه إلى العالِم الخبير بأيام العرب وأنسابها، أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، ليدلّ الأمة على أن القول في التاريخ والأنساب لا يُبنى على العاطفة ولا على الظن، وإنما على التحقيق والمعرفة والعدل.

وقد قالت العرب قديمًا:
“من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.”
وقالوا أيضًا:
“القول سهم، إن أرسلته لم تملكه.”
ولعمري إنّا نرى في أيامنا من العجائب ما صدّق تلك الأمثال، إذ يتصدر للحديث من لم يُحصّل علمًا، ولا قرأ مصدرًا، فيقع في الوهم، ويُحدث في العقول لبسًا وتشويشًا.

إنّ بناء صفحةٍ واحدةٍ من التاريخ الحق، أو نسبٍ موثوقٍ مؤصل، يحتاج إلى زمنٍ طويلٍ من البحث والمقارنة والمراجعة، وإلى صدق نيةٍ تُراد بها الحقيقة لا الشهرة، والعلم لا التفاخر.
فالمؤرخ والأديب والنَسّابة كلّهم رعاةُ أمانةٍ، إن أحسنوا حملها شكرهم الناس، وإن فرّطوا فيها لعنهم التاريخ.

ثم إنّ المتلقين متفاوتون في الفهم والإدراك؛ فبينهم العالم والجاهل، والناقد والبسيط، فلا يجوز أن يُلقى الكلام على عواهنه، لأن الكلمة إن خرجت لم تُسترجع، ولأنّها قد تُبنى عليها مواقفُ وأحكامٌ وعصبياتٌ لا تُحمد عقباها.

وفي ختام القول، نذكر بقول الله جلّ شأنه:
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
فالعلم أمانة، والكلمة مسؤولية، والتاريخ والأنساب لا يقومان إلا على صدقٍ وعدلٍ وبصيرةٍ وصبرٍ طويل.
ومن لم يكن من أهل هذا الفن فليتقِ الله فيه، فإنّ الكلمة إذا زلّت، زلّ معها التاريخ، وما كتبه القلم لا تمحوه الأعذار.

د. دخيل الله عيضه الحارثي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى