كُتاب الرأي
رهبة القمم
رهبة القمم
فيصل مرعي الكثيري
ليس غريبا أن يشعر بعض الناس بالنعاس إذا سمعوا حديثا علميا دسما أو نقاشا فلسفيا جادا. الغريب حقا أن يظنوا أن العيب في المادة، لا فيهم. فالعقل الذي لم يُعود على تسلّق القمم، لا يحتمل الهواء النقي حين يصعد؛ فيدوخ كما يدوخ المرتجف على سلّم الطائرة. حين تضع أمامك كتابا في نظرية المعرفة، أو فيزياء الكم، أو حتى في منطق الحجاج، ويغلبك التثاؤب بعد صفحة أو اثنتين، فاعلم أن الذي يثقلك ليس الحبر، إنما الارتفاع الذي لم تدرّب نفسك على احتماله. كالمبتدئ يدخل ناديا رياضيا، فيلهث من أول تمرين، ثم يحكم بأن المكان لا يصلح له، مع أن العيب في ضعف جسده لا في التمرين. وهكذا حال من يفتح مختصر خليل في الفقه المالكي؛ كتاب قليل الورق، شديد الكثافة، حتى وصفه العلماء بأنه ألغاز الفقه. يفرّ منه الكسول كما يفرّ الطفل من الحساب المعقّد، بينما يجده الطالب المجتهد ميدانا لصقل الفكر وتقوية العزيمة.
في زمن المعلومة السريعة صارت العقول تطلب المعرفة ((كالسناكس))؛ لذيذة مغلّفة، بلا حاجة إلى جهد المضغ. يريدون الفهم من دون تفكير، والوصول من غير تعب. فإذا قرأوا مقالا محكم البنيان، أو سمعوا شرحا علميا يعالج الأفكار لا الظنون، ضاقوا به، واتهموه بالتعقيد أو التكلّف أو الترف العقلي. وأي غرابة في أن يُطلب من الإنسان أن يصعد إلى مستوى الفكر؟ أليس أدعى للكرامة أن نرتقي لنفهم، من أن نُدجّن عقولنا لتبقى في أدنى مراتب السهولة؟ العقل لا يألف إلا ما عوّد نفسه عليه؛ فإن طالت صحبته للتفاهة والمزاح الفارغ، ضاق صدره بالحكمة. وإن أدمن المقاطع القصيرة على منصات التواصل، استثقل أي فكرة تحتاج إلى دقائق من التأمل. وهنا تكمن الخطورة؛ أن نُربي الذوق على الاستسهال، ثم نتوقع أن ينبت لنا مفكرون أو مبدعون كبار.
تأمل حياتنا اليومية؛ ترى الناس يتنقّلون بين الشاشات كما يتنقّل الطفل بين الحلوى، يلتقط المعلومة السريعة ويظن أنه ملك المعرفة. فإذا سمع محاضرة علمية جادّة، لم يصبر عليها أكثر من دقائق معدودة، كأن الأذن أُدرّبت على الطنين لا على المعنى. وإن دُعي إلى قراءة كتاب متين، تذرّع بضيق الوقت، مع أنه يقضي الساعات في متابعة نقاشات عقيمة على المنصات.
الفكر ليس وجبة فورية تُسكب في كوب ماء ساخن. هو رحلة صعود تحتاج إلى رئة صابرة وقلب لا يملّ. من أراد العقل، فليحمله كما يحمل الفارس سلاحه، لا كما يحمل الخادم متاع غيره. ومن أراد ان يفهم الحياة، فليصبر على جهد الفكر كما يصبر المزارع على قسوة الحرث قبل الحصاد.
المعرفة لا تصدّك لتطردك، إنما تختبر طاقتك. والفلسفة لا توجعك لأنها عبث، إنما لأنها توقظ العضلات الخامدة في رأسك. فلا تُلقِ السأم على المعنى، واسأل نفسك: هل عندك نفس تشتاق إلى القمم؟ أم رضيتَ أن تعيش في السفح… تتثاءب؟.

عصر السرعة والتكنولوجيا، كل شي سريع الفكر والاكل