نادي القصة

رائحة الفل وذاكرة الجبل

رائحة الفل وذاكرة الجبل

✍️ بقلم / رؤى مصطفى

هناك أماكن لا تعرف الشيخوخة…
تظل نابضة في أعماق الذاكرة، تحفظ صدى خطواتنا الأولى، وضحكاتنا الصغيرة، وروائح لا تغادر الروح.

“حارة الجبل” لم تكن مكانًا فحسب،
بل كانت طفولةً تمشي على الأرض، تترك في القلب عطرًا لا يزول.

أشتاق بين الحين والآخر إلى حارتنا القديمة،
إلى رائحة الريحان والليمون الأخضر، وإلى شجرة العنبرود (البابايا) التي غرستها جدتي بحنانٍ إلى جوار شجرة الفل.
زاوية صغيرة من بيتنا تحولت إلى حديقةٍ تنبض بالحياة، وكانت جدتي تردد دائمًا:

“الفاكهة تُطعم الجسد، والفل يُطعم القلب بالفرح.”

كنت أستيقظ كل صباح على صوت التدريب العسكري المنبعث من قلعة الدوسرية،
وأدرك أن الساعة بلغت السابعة، وأن عليّ الإسراع إلى المدرسة…
كنت أحبّ هدوء الصباح، وصوت العصافير التي ترافق خطواتي الصغيرة.

جارنا الطيب، الذي كنا نناديه “عمو”، كان يصحبني مع بناته إلى المدرسة قبل شروق الشمس.
نمرّ بزقاق ضيّق يفوح منه عبق الخبز الحار، وتعلو أصوات الأمهات وهنّ ينادين أبناءهن من خلف النوافذ الخشبية القديمة.

كنت أمرّ بشجرة الفل التي زرعتها جدتي، أقطف زهرة وأعلقها في ضفائري…
كانت رائحتها تسبقني، حتى أن المعلمة كانت تسألني:

“من أين تأتيكِ هذه الرائحة الجميلة؟”
فأبتسم بخجل وأجيب:
“من شجرتنا… شجرة الفل.”

كنت أرافق جدتي إلى السوق الداخلي،
نتنقل وسط الزحام بهدوء.
أتشبث بطرف عباءتها، أتأمل وجوه الناس، وروائح البهارات، وأصوات الباعة، والخبز الطازج الخارج من التنور.
كانت حياة بسيطة، دافئة، مليئة بتفاصيل لا تُنسى.

وفي كل فصل دراسي ننجح فيه، كانت أمي تصنع لنا قالبًا من الكعك،
تفرح بنا وكأننا حصلنا على أوسمة العالم.
كنا نجمع بنات الحارة، نلعب، نضحك، ونوزّع الكعك بفرحٍ صادق…
النجاح عندنا لم يكن مجرد درجات، بل طقسًا عائليًا يُحتفل به بالحب قبل الورق.

وفي الإجازات، كانت خالتي تأتي بأطفالها،
فيمتلئ البيت بالضحك والصخب والحياة.
نخرج خلف البيت، حيث يمتد الجبل الصغير، نعدّه مغامرتنا الأولى.
نتسلقه بأقدام حافية وقلوب جريئة، وتغضب أمي في كل مرة نعود فيها بلا أحذية، قائلة:

“كم مرة قلت لكم لا تذهبوا إلى الجبل وأنتم حفاة؟!”
فنضحك في سرّنا، ونعدها بعدم التكرار… ثم نكرر المغامرة في اليوم التالي.

ثم ننزل من الجبل لنجد البحر…
ذاك البحر الهادئ الذي يحتضن السماء كحلم بعيد.
نرمي فيه أسرارنا الصغيرة، ونراقب الأفق كأننا ننتظر سفينة خرافية تأخذنا إلى عالم الحكايات.

نعود مع الغروب، وجيوبنا ممتلئة بالحجارة الملوّنة والصدف الصغير…
وقلوبنا ممتلئة بالفرح.

كبرنا… وتغير كل شيء،
لكن “حارة الجبل” ما زالت تسكن قلبي،
تحفظ ضحكاتنا على جدرانها، وتخزن رائحة الفل والريحان في زواياها،
وتحرس آثار أقدامنا الصغيرة التي عبرت طفولتها هناك…

غادرناها، لكنها لم تغادرنا.

كاتبة رأي وقاصة

 

رؤى مصطفي الجعر

كاتبة رأي ومستشارة إعلامية

‫3 تعليقات

  1. في قلب القصة حياة حارة وقصة حياةفي بندرجازان الأولى حيث المكان والناس والأرض والانسان تعبق فيهم روايح وفواكه جازان وقداظلهم البحر وحواهم الجبل وحديث الدراسة والسوق وطيبة الناس وقلعة الدوسري كلها شاركن في جوالقاصة بتكتيك قصصي فني تداخلت الشخوص في القصة لكن البطلة واحده انها رؤري وبهذا اكتملت قصتها وام تخرج عن الفن القصص الذي تظهر فية حارة الجبل الاثيلة باسها وحديث القصة الماتع حتى أخرجت لنا لوحة فنية كانت حديث الماضي بصوت الحاضر جميل أن نرى الق بهذا الأسلوب لنرى قصصا بديعة

  2. (رائحة الفل وذاكرة الجبل)
    عنوان في منتهى الجمال واضح هناك قصة تمتد بين بقايا الأمس
    عندما رجعت للكاتبة وجدتها الاستاذة رؤى مصطفى ادركت ان هذا الجمال لايأتي إلا من جميل وادركت ان هناك قصة جميلة
    (هناك اماكن لاتعرف الشيخوخة تظل نابضة في اعماق الذاكرة تحفظ صدى خطواتنا الاولى وضحكاتنا الصغيرة وروائح لاتغادر الروح) هي رؤى مصطفى من تكتب هذا الجمال
    اماكن لاتعرف الشيخوخة اعجبتني هذه المفردة فالمكان فعلاً لايعرف الشيخوخة ولا يعرف الهرم روحه حيه ذاكرته فتية وعندما نعود اليها نعود إلى طفولتنا صبانا دنيانا إلى كل شئ فينا
    حارة الجبل عرفته رؤى بانه مكان وذاكرة زمان فهي تنبش ثرى اريج الطفولة بين الجدران بين الاودية بين الجبال كاننا معها نستنشق عبير الذكريات
    كلنا ذاك الزمان استاذة رؤى
    كانت بجانب القلعة تمارس براءة الطفولة وصفت كل الاماكن بدقة حتى صوت التدريب العسكري وحتى وصفت الأزقة الضيقة وتذكرت رائحة الخبز الحار خبر البيت ياااه على تلك الايام رائحة شهية ولذيذة نسعد نحن الاطفال إذا لامست انوفنا نشبع من الرائحة
    شجرة الفل كرمزية على النماء على ذاكرة العطر رمزية على الاناقة فهي تنتشي بوائقك الفل وتعلقها فوق ظفائرها
    أستاذتها استنشقت رائحة الطيب فحمدت بتلميذتها الفعل انها من اجمل ذكريات العمر
    وصفت السوق ذلك الزمان يالها من جميلة وهي تعزف لحن الذكريات فوق أطلال سوق قديم وصفت حتى البهارات ورائحة التنور وحركة الناس هي اشبه بالرواية لانها تؤرخ لزمن ما وتحكي معظم ابعاده وهنا تكون شخصية الاديب فهو يحكي ادق التفاصيل كما في روايات نجيب محفوظ
    وصفت تجمع الاسرة بعد الدراسة زمن بسيط لكنه جميل فيه الاحترام بين الجميع الكبار في صدر المجلس لا ينازعهم احد يتحدثون دون مقاطعة كانت مقاطعة حديث الرجل عيب ومستنكر في ذلك الزمن والشباب هم من يعمل القهوة ويدور بها الكبار اما نحن كاطفال فنمر بادب بين الصفوف عندما يطلبنا احد ليسلم علينا
    سرد واقعي من الاستاذة رؤى مصطفى بأسلوب شيق جميل وبقلم انيق يسطر اللحظة باجمل المفردات
    انها رؤى استاذة تطويع الكلمة
    فهي تطوع المفردة كما تشاء
    ختمتها روايتها بعبارة
    (غادرناها لكنها لم تغادرنا)
    ياااه كلمة بليغة تلخص كل القصة وتترك اثراً من الجمال داخلنا ولهفة داخلنا إلى ذلك الماضي الذي توارى خلف ستائر الزمن لكنه يظل حياً تحت الرماد ولا يموت
    شكراً استاذة رؤى عدت إلى زمن ابي وامي رحمهما الله تعالى واموات المسلمين
    لا استطيع مغادرة الرواية فالزمن توقف هنا
    شكراً لك استاذة رؤى
    تحياتي للجميع
    عبدالله اليوبي

  3. رؤى
    سبح خيالي لعبق التاريخ وحياة زمن الطيبين.
    تذكرت حينما سمع والدي رحمه الله اسمي بالاذاعة انني ناجح من الابتدائة اطلق من بندقيته عدة طلقات فرحاً.
    لقد ذهبت بعيدا واستحضرت حياتنا في قريتنا الضاربة في زالقدم واليوم نقف على اطلال بيتنا ولم يتبقى لنا منها سوى شجرة حُمر ” تمر هندي” معمرة يتجاوز عمرها ٤٠٠ عام.
    مقالك جميل بجمال زمانه ومكانه وقد ابدعتِ في السرد وتسلسل الافكار بصيغة السهل الممتنع.
    دام ألقك 🌹🌹

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى