كُتاب الرأي

دمُنا المستباح من الحاخام والطيّار

محمد الفريدي

دمُنا المستباح من الحاخام والطيّار

حين تنشر صحيفة إسرائيلية بارزة كـ”جيروزاليم بوست” الصهيونية الناطقة بالإنجليزية تقريراً تقول فيه إن نصف العالم يكره اليهود، لا بد أن نتوقف هنا لنحلّل هذا التقرير، ونفهم الأسباب التي جعلت ملايين البشر – من قارات وثقافات وخلفيات مختلفة – يكرهون اليهود.

استندت الصحيفة إلى استطلاع عالمي أجرته “رابطة مكافحة التشهير”، أظهر أن 46% من سكان العالم يعادون السامية، مقارنة بـ26% فقط قبل عشر سنوات. ثم تساءلت، بدهشةٍ مصطنعة تكاد تُضحكنا: لماذا؟ وما الذي تغيّر؟

والسؤال الحقيقي الذي تجاهلته الصحيفة عمداً هو:

هل الكراهية المزعومة نابعة من عنصريةٍ عمياء، أم من أفعالٍ مرئية تُرتكب كل يوم على مرأى ومسمع من العالم؟

منذ السابع من أكتوبر 2023، والعالم كله يشاهد مجازر ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية ضد المدنيين العزل في غزة.

أكثر من 57268 ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء.

آلاف الضربات الجوية تستهدف المدارس والمستشفيات والمخابز، وأُبيدت أحياء كاملة من الوجود.

قُطعت المياه، ودُمّرت البنية التحتية، وجُوِّع السكان، واغتُصبت حقوقهم، ثم تخرج الآلة الإعلامية الإسرائيلية لتقول للعالم: “نحن الضحايا، لا هؤلاء”. ولماذا يكرهنا نصف العالم؟ وما الذي تغيّر؟

أي تناقضٍ أبشع من هذا يا يهود؟

كيف يمكن لإنسانٍ سوي أن يقبل هذا الكمّ الهائل من الدمار الأخلاقي ويظل متعاطفاً معكم؟

هذا الرفض المتصاعد لإسرائيل لم يأتِ من فراغ، بل من وعيٍ متنامٍ بأن هذا الكيان يمارس الإبادة الجماعية، ويتقن لعب دور الضحية ببراعة.

صحيفة “جيروزاليم بوست” تُرجع تنامي ما تصفه بـ”الكراهية” إلى الجهل بالهولوكوست، وتُلمّح إلى ضرورة “إعادة تثقيف الشعوب” من خلال المدارس ووسائل الإعلام.

لكن الحقيقة أن شعوب العالم لم تعد تبتلع الرواية الإسرائيلية بسهولة؛ فهم يشاهدون، بعيون العصر الرقمية، ما يجري في غزة لحظة بلحظة.

لقد أصبحت الصورة أقوى من الدعاية الإسرائيلية، والأشلاء المتناثرة تحت الركام تفضح ادعاءات “الأخلاق اليهودية” التي طالما تسلّحت بها إسرائيل أمام المجتمع الدولي.

هل يحتاج العالم إلى محاضراتٍ عن الهولوكوست، أم إلى إدانة صريحة للهولوكوست الذي يُمارس اليوم ضد الفلسطينيين في غزة؟!

الاستطلاع في هذه الصحيفة أشار أيضاً باستغراب إلى أن أكثر من 75% من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يصدّقون التصوّرات السلبية عن اليهود.

فماذا تتوقع إذن هذه الصحيفة من شعوب ترى يومياً أبناءها يُقتلون، وتُحرق بيوتهم، وتُسلب حقوقهم، وتُبرَّر هذه الجرائم على أنها دفاع عن النفس؟

الكُره لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج أفعالكم، وسياساتكم، وعقيدتكم الاستعلائية التي تعامل الآخر ككائنٍ أدنى لا يستحق الحياة. إلا أنه من المهم أن نؤكد باستمرار أن نقدنا الموجّه لإسرائيل لا يعني كراهيتنا لليهود كشعبٍ وبشر؛ فملايين اليهود في العالم يعيشون بسلام، ويعارض كثيرٌ منهم سياسات إسرائيل العنصرية. لكن مشكلتنا أن اللوبي الإسرائيلي يدمج عمداً بين “اليهودية” و”الدولة الإسرائيلية”، حتى يصبح أي نقدٍ للجرائم الصهيونية معاداةً للسامية.

هذا الخلط هو السلاح الذي تستخدمه إسرائيل لشلّ أي صوتٍ ينتقدها، ولتمرير ممارساتها القمعية تحت ستار الدفاع عن النفس، واتهام من يعارض تصرفاتها الوحشية بمعاداة السامية.

تقرير “جيروزاليم بوست” قال كذلك إن هناك مظاهرات ضخمة في بريطانيا وأمريكا وألمانيا تدعم أهالي غزة، وهذا ليس “جهلاً” كما تعتقد الصحيفة، بل صحوة، فقد بدأت الشعوب بتفكيك الرواية الإسرائيلية التي بُنيت لعقود، وأعادت تعريف “الضحايا” و”الجلادين”، وباتت مشاهد الركام والدماء أصدق من آلاف الخطب، وأسقطت الأقنعة وكشفت من يقف حقاً مع الإنسان، ومن يتاجر بآلامه باسم القيم المُزيفة وشعار “الدفاع عن النفس”.

إسرائيل لم تعد قادرة على خداع الجميع؛ فالعدسات تفضحها، والأرقام تدينها، ودماء الأطفال في غزة صارت أقوى من أي دعاية لسياساتها.

ما يُقلق إسرائيل ليس “الجهل العالمي”، بل الوعي العالمي.

ولذلك، حين تصرخ صحيفة كـ”جيروزاليم بوست” بأن “نصف العالم يكرهنا”، فهي في الحقيقة تصرخ لأن العالم بدأ يرى بوضوحٍ حقيقة إسرائيل.

ولا شيء أشد وقعاً على الظالم من أن تنكشف حقيقته. فحين تنكشف الحقيقة، تنهار كل الأقنعة، ويبدأ الحساب، ولا مهرب من العدالة التي تنتظر كل من ارتكب هذه المجازر ضد الإنسانية.

المشكلة لم تكن يوماً في اليهود كأفرادٍ أو ديانة، بل في الصهاينة والصهيونية كمشروعٍ محتلّ متوحّش، وفي أولئك المتطرّفين الدينيين الذين لبسوا العباءة التوراتية، واستباحوا الدم الفلسطيني، ومارسوا التطهير العرقي تحت ستار “الحق التاريخي”.

هؤلاء المتطرفون لا يديرون دولة، بل يديرون ماكينة إبادة تشوّه الدين، وتُصادر الحقيقة، وتحرق كل من لا ينتمي إليهم.

إن الذين يُلقون القنابل على رؤوس الأطفال في غزة، ويمنعون عنهم الماء والغذاء والدواء، ليسوا مجرد جنودٍ مأمورين، بل هم انعكاسٌ لعقيدة دموية تحكم إسرائيل اليوم، وتقودها أحزاب اليمين الصهيوني المتطرّف، التي ترى أن الفلسطينيين “غوييم” لا حقوق لهم ولا قيمة، وقتلهم تقرّبٌ إلى الرب.

وهذا ليس تحليلاً، بل كلامٌ موثّق في تصريحات كبار الساسة والمستوطنين، وفي فتاوى الحاخامات الذين يمنحون “الذبح” مشروعية دينية.

دولة تقودها أيديولوجيا كهذه لا تستحق التعاطف، بل تستحق الإدانة الأخلاقية من كل ضميرٍ حي.

إن أخطر ما في المشروع الصهيوني ليس القوة النووية، بل هذه العقيدة الفاشية التي توظّف الدين في خدمة المحتل، وتجعل من التوراة غطاءً لقتل النساء والأطفال، وهدم المنازل، وتهجير المدنيين.

لذلك، فإن العالم لا يرفض إسرائيل لأنها “دولة يهودية”، بل لأنها دولة قائمة على الفصل العنصري، والتوسّع، والقتل الممنهج، ويقودها مجانين باسم الرب.

ما يحدث في غزة ليس حرياً بين جيوش، بل إبادة جماعية ينفذها كيان غاصب قائم على رؤية دينية متطرّفة ترى في الفلسطيني “عقبة تاريخية” يجب اقتلاعها وإزالة وجوده من أرضه بكل الوسائل القسرية والوحشية الممكنة.

والوعي الذي بدأ يتشكّل عالمياً ليس كراهية، بل غضبٌ أخلاقي مشروع.

فعندما تقف جامعاتٌ مرموقة، وفنانون عالميون، وأكاديميون كبار، وصحف ذات مصداقية في وجه إسرائيل، فالأمر لا علاقة له بـ”الجهل بالهولوكوست”، بل بالوعي بجريمة العصر التي ترتكبها إسرائيل في غزة.

وكلما ازداد تطرّف إسرائيل، وتمادى جنرالاتها في سفك الدم، ازدادت عزلتها، وانكشف زيف روايتها.

فلا دعاية قادرة على تبرير المقابر الجماعية، ولا خطاب سياسي قادر على تلميع مشاهد الأطفال تحت الأنقاض.

والعالم بدأ يفتح عينيه على حقيقتها، وميزان العدالة والأخلاق لن يبقى معطلاً إلى الأبد.

إسرائيل اليوم لا تخشى المظاهرات فقط، بل تخشى الكاميرات.

ولا تخشى المقاطعة الاقتصادية بقدر ما تخشى المقاطعة الأخلاقية، لأن هذا العالم، الذي ظنّته أعمى طويلاً، بدأ يفتح عينيه ويرى الحقيقة كما هي.

وهذا ما يُرعبها.

وحين يقولون إن “نصف العالم يكرهنا”، فالصحيح أن “نصف العالم بدأ يكره الكذب، والنفاق، وازدواجية المعايير” التي تحتمي بها إسرائيل، وتبرّر بها جرائمها ضد الأبرياء العزّل الذين لا حول لهم ولا قوة.

فهذا الكيان الغاصب ليس وليد توازنات سياسية، ولا مجرد احتلال كلاسيكي، بل هو نتاج عقيدة توراتية منحرفة ترى في إبادة الآخر “تقرّباً” إلى الله، وفي حرق الأطفال “تطهيراً لأرض الميعاد” من رجس الأغيار.

ومنذ بدايته، لم يكن يبحث عن السلام، بل عن القضاء الكامل على وجود شعبٍ آخر، بدعمٍ لاهوتي مسعور يحرّض على الإبادة، ويمنح المجرم غطاءً دينياً لمجازره، ويمنح الجلاد صكوك الغفران، ويبرّر الوحشية باسم الوعد المقدس والعهد الجديد.

وما نشهده اليوم في غزة ليس مجرّد حرب، بل طقوس دينية دموية، تُرفع فيها الصلوات تحت أزيز الطائرات، وتُقرأ فيها النصوص المقدسة فوق أنقاض البيوت.

ولعلّ أقسى ما في هذا المشهد أن تتحوّل نصوص الأديان إلى وقود للكراهية، وأن يصمت العالم بينما تُذبح الحقيقة والأبرياء باسم الرب.

فهل آن الأوان لأن ينهض الضمير الإنساني ويُعيد للعدالة صوتها، قبل أن يبتلع الصمت ما تبقى من نور هذا العالم المعذب، ويغرق في ظلام لا ينتهي؟

فالسكوت عن هذه الجرائم مشاركة في الجريمة ذاتها، والعدل لن يُطبّق إلا بصوت يصدح لا يخاف، وبخطى لا تتوقف حتى يُرفع الظلم عن المظلومين وينتصر الحق على الطغاة.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫2 تعليقات

  1. اليهود قتلت الانبياء وحرفوا الكتب السماويه وعاثوا بالارض ظلما وفساد
    لاعهد لهم ولاذمه وقد وصفهم القران الكريم بمواضيع عده يفند سلوكهم وتصرفاتهم لقد كان هتلر محقا بما فعله باليهود وشردهم وهم يمارسون مافعله هتلر بهم …. سينتصر الحق ولو بعد حين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى