كُتاب الرأي

دموعنا تمحو ابتساماتنا ..

 

دموعنا تمحو ابتساماتنا ..

في دروب الحياة، يتداخل الضوء بالظل، وتتمازج اللحظات الحلوة بمرارة الفقد، وكأن القدر ينسج لنا لوحةً لا تكتمل إلا بخيوط من التناقض. ولعل من أعجب ما فيها: تلك العلاقة المعقدة بين الفرح والسعادة… متقاربان لفظًا، متضادان أحيانًا في العمق.
الفرح خاطف. يمر كوميض برقٍ في ليلٍ حالك. قد يكون ضحكة في لحظة مع الاحباب، أو نشوة انتصار، أو لقاء بعد غياب. لكنه لا يلبث أن يرحل، لأنه وليد ظرفٍ خارجي: نجاحٌ تحقق، هديةٌ مقطع، أغنيةٌ لامس وترا دافئًا في القلب.
أما السعادة فهي أعمق من ذلك… إنها طمأنينة تمتد، ورضا يتجذر في الأعماق، حتى لو كانت السماء تمطر حزنًا، ومع ذلك، فإن الحياة لا تُعطينا كل يوم أسبابًا للفرح أو السعادة. فعند تلك المصائب، يفقد الإنسان شغفه بالحياة، وتتوقف أحلامه، ويسير بلا وعيٍ حقيقي . يصبح كالغريق تمامًا، يبحث عن طوق نجاة وسط بحرٍ من الذكريات والخذلان. يريد أن يرى جمال الحياة كما كانت، بين ابتسامات الأحباب وضحكات الأصحاب، بين صباحات ومساءات بسيطة لم تكن تحمل هذا الثقل، وليالٍ كان فيها النوم ملاذًا لا معركة من الأسى والهموم.
قد نضحك أمامهم، ونبكي في داخلنا ووحدتنا، نرتدي أناقة الفرح في بينما أرواحنا تتشح بحزنٍ لا يُرى. هذا التباين هو ما يجعلنا بشرًا. فما الحياة إلا تأرجح دائم بين اللحظة العابرة والشعور المستقر، بين فرحٍ يعلو وسعادةٍ تختبئ في التفاصيل.
وتعاكس بين الضحك والبكاء .!
وقد يكون الإنسان سعيدًا رغم خلو أيامه من المفاجآت، لأنه تعلّم فن الاكتفاء، وذاق طعم الرضا. بينما قد يبتهج آخر بأضواءٍ كثيرة، لكنه لا يعرف السلام الحقيقي. وهنا تتجلى المفارقة: ليس كل فرح سعادة، ولا كل سعادة تحتاج إلى فرح.
وفي هذا الصخب للحياة ، نحتاج أن نُعيد تعريف مشاعرنا. أن نتعلم أن نبتسم دون سبب، ونستشعر الامتنان حتى في الألم، أن نُدرك أن عمق السعادة لا يُقاس بضحكةٍ على الشفاه، بل براحةٍ في القلب، وثقةٍ بأن الغد، مهما كان غامضًا، فهو في كفّ الرحمن، ولنبحث عن السعادة في المعاني، لا في الضجيج. ولنعلم أن أجمل المشاعر لا تُصنع، بل تُزرع في أعماق الروح، وتنمو بصبر المحبين ويقين المؤمنين، فالحياة ليست سَيراً على طريقٍ مفروشٍ بالورود، بل هي مزيجٌ من النعم والمحن، من المسرّات والمآسي، من اللقاءات والفقد، من الآمال والانكسارات. وكثيراً ما تفاجئنا الدنيا بأهوالها، وتقلباتها، وتبدّل أحوالها بسرعة تُربك القلب وتُنهك الروح، فنستيقظ أحياناً على نبأ فقد حبيب، أو على خذلان ممن منحناهم قلوبنا، فنتساءل: لِمَ كل هذا الألم؟ لِمَ لا تستقيم الدنيا على حال؟
ولكن الحقيقة التي يدركها العاقل، أن هذه الدنيا دار بلاء وابتلاء، لا دار قرار، قال تعالى:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد:4]، أي في مشقة وتعب.
إن الدنيا كما وصفت دار ممر، لا دار مقر، وخلق الإنسان فيها للبلاء، وابتُلي فيها بالسراء والضراء.
تأمل كيف يفقد الإنسان من يحب، وتُسلب منه النِعَم فجأة، وقد تتحول صحته لمرض، وغناه لفقر، وفرحه لحزن. قال المتنبي:
“مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ… ولكنها عند صاحبها مواجعُ.”
وقد لا تقتصر أهوال الحياة على فقد الأحبة، بل تأتينا أحيانًا في صورةٍ أقسى… تفجعنا بأناس كانوا أنسنا وسندنا، نراهم بكامل عافيتهم، بابتسامتهم المعتادة، بخطواتهم بيننا… ثم فجأة، لا يحرّكون ساكناً.
يرحلون بصمتٍ قاتل، وتبقى صورهم في الذاكرة تصرخ…
تتحول تفاصيلهم الصغيرة إلى طعنات مبعثرة، وتصبح الحياة من بعدهم أقل دفئًا، وأكثر برودة.
نعيش صدمة الاستيعاب، نُحدّق في الفراغ، ونسأل أنفسنا مرارًا: هل رحلوا فعلاً؟ كيف اختفوا هكذا؟ أين كانوا وأين صاروا؟!
وعند تلك المصائب، يفقد الإنسان شغفه الحقيقي بالحياة، وتتوقف أحلامه، ويسير بلا وعيٍ للتكيف، ، مثقلاً بالألم، كالغريق يبحث عن طوق نجاة في وسط موجٍ لا يهدأ.
يتوق أن يرى الحياة كما عرفها مليئة بضحكات الأحباب، ودفء الأصحاب، وسكون اللحظات البسيطة التي كانت تغمره بالطمأنينة، ويفتش عن ذاته بين الرماد، وينتظر قبساً من نور يعيده إلى نفسه.
قال نجيب محفوظ:
“الحزن لا يغيّر ما فقدنا، لكنه يغيّرنا نحن.”
ومع كل هذه الأهوال، يبرز الإيمان بالله كطوق نجاة وسط أمواج الحياة العاتية، فحسن الظن بالله يُلطف وقع البلاء، واليقين بأن الله أرحم الراحمين يزرع في القلب طمأنينة لا يملكها إلا المؤمن.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن العبد ليهمّ بالأمر من التجارة أو الإمارة، حتى يُيسّر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإن يُيسّرت له لأدخله النار، فيُصرفه الله عنه، فيظل يتطير ويقول: سبقني فلان، ودهاني فلان، وما هو إلا فضل الله.”
الحياة لا تطرق أبواب القلوب بلطف دائم، لكنها تعلمنا الصبر، وتُظهر لنا معادننا، وتجعلنا نعرف مَن معنا بحق، وتُعيد ترتيب الأولويات، فكم من بلاء كان فيه الخير، وكم من ألم كان بوابة لرحمة واسعة.
قال ابن القيم رحمه الله:
“ما خُلقنا للراحة، وإنما خُلقنا لدارٍ تتقلب بنا بين الشدائد والفتن، حتى نلقى الله صابرين محتسبين.”
وأمام تلك الأهوال والفواجع ، لا نملك إلا أن نحتمي بإيماننا، ونتزود بالصبر، ونرفع أكفّ الدعاء، وندرك أن كل ابتلاء مهما طال، فإنه مؤقت، وأن بعد العسر يسراً،فمهما اشتدت الظلمة، فلا بد للفجر أن يُشرق.
… وأمام أهوال الحياة وآلامها، لا نملك إلا أن نلوذ بباب الله، نطرق عتبات رحمته، ونرفع أكفّ الضراعة بالدعاء: اللهم خفّف عنا أوجاع الحياة، وداوِ جراح القلوب التي لا يراها سواك.
اللهم اجبر كسرنا، وامنحنا صبراً جميلاً، ورضاً واسعاً، ونوراً في دروبنا المظلمة.
اللهم لا تجعل في قلوبنا ألماً إلا داويته، ولا هما إلا فرّجته، ولا مريضاً إلا شفيته شفاء لا يغادر سقماً.
اللهم اجعلنا ممن إذا اشتد بهم البلاء، ازدادوا إليك قرباً، ومنك رجاء، وبك يقيناً.
اللهم اجعل لنا من كل ضيق مخرجاً، ومن كل حزن فرجاً، ومن كل بلاء عافية، واملأ أيامنا بطمأنينةٍ لا تزول، وفرحٍ لا يخبو، ورضا لا يُفنى

الكاتب :د. عبدالرحمن الوعلان
معد برامج تلفزيونية وكاتب مسرحي

 

 

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى