
دراما أحلام
عندما أضع رأسي على الوسادة، وأغمض عينيّ كطفل أنهكه اللعب، يبدأ العالم الواقعي في الانسحاب بهدوء، تاركًا خلفه صخب الأفكار وضجيج النهار، لأجد نفسي أبحر في فضاء آخر؛ فضاء لا يخضع لقوانين المنطق ولا يعترف بحدود الزمان والمكان. هناك، حيث تنبض الخيالات بالحياة، وتتشكل الصور كلوحات زيتية تتحرك أمامي، تبدأ رحلة الأحلام؛ رحلة درامية ساحرة لا يشاركك تفاصيلها أحد سواك.
الأحلام في جوهرها ليست سوى إنتاج فني داخلي بالغ الدقة؛ سيناريو مكتوب بحبر اللاوعي، مشاهد متتابعة بحبكة قد تفوق أحيانًا براعة كبار المخرجين، ومؤثرات بصرية وصوتية تجعل من الحلم عرضًا إعلاميًا فريدًا، لا يُبث إلا على شاشة الذاكرة الداخلية. أحيانًا تكون هذه العروض كوميدية حد الضحك، تجعلك تستيقظ مبتسمًا كأنك شاهدت للتو مسرحية ساخرة، وأحيانًا تحمل رمزية مدهشة، تختزن رسائل خفية من عمق الذات، وأحيانًا أخرى تتحول إلى مشاهد رعب تتسارع فيها ضربات القلب، لتستيقظ مبلل الجبين وكأنك نجوت من موت محقق.
وهناك نوع خاص من الأحلام، هو الأكثر إغواءً وسحرًا: أحلام تفوق في جمالها قسوة الواقع. تجد نفسك في حضن قصة حب مثالية لم تعرفها من قبل، أو بطلاً في معركة ملحمية تنتصر فيها بجرأة أسطورية، أو طائرًا يحلق فوق المدن والجبال والبحار بحرية مطلقة. وعندما تستيقظ، تتمنى لو أن النوم امتد قليلًا، أو لو أن الحلم تحوّل إلى واقع. إن لحظة العودة من هذا العالم الموازي تحمل شعورًا مرًّا، أشبه بالانفصال القسري عن مسرح كنت نجمه الوحيد.
وعلى الجانب النفسي، يرى المحللون أن هذه الأحلام ليست عبثًا. هي رسائل من العقل الباطن، تحاول أن تترجم صراعاتنا ورغباتنا وأفراحنا وأحزاننا في لغة رمزية. الحلم الفكاهي قد يكون وسيلة العقل للتخفيف من ضغط يومٍ ثقيل. والحلم الرمزي هو محاولة لترتيب الفوضى الداخلية وفهم الذات. أما الأحلام المرعبة، فهي انعكاس لمخاوف دفينة أو صدمات لم نتحرر منها بعد. إنها – ببساطة – لغة الروح حين تعجز اللغة عن التعبير.
ولأن الإنسان بطبيعته كائن حالم، فإن بعض الأحلام تتحول إلى منابع إلهام. لا عجب أن كثيرًا من القصص العظيمة، والاختراعات الكبرى، وحتى النظريات العلمية، خرجت من رحم حلم غامض التقطه صاحبه ونسجه إلى واقع ملموس. فرويد نفسه كان يرى أن الحلم نافذة تكشف عن أعمق مناطق النفس، وأن فهم رموزه قد يقود إلى فهم الذات بشكل أعمق وأصدق.
إن جمال الأحلام الدرامية يشبه جمال الإعلام، لكن مع اختلاف جوهري: الإعلام يصنعه الآخرون لتشاهده، بينما الأحلام تصنعها روحك لتبثها في عالمك الداخلي. كلاهما يمنحك الحكاية، يحرك مشاعرك، ويفتح أمامك أبوابًا للهروب من رتابة اليوم إلى فضاء أوسع وأكثر رحابة. الفرق أن الحلم، مهما كان جنونيًا أو مبالغًا فيه، يبقى صادقًا لأنه صوتك الداخلي الخالص.
ولهذا، حين أستيقظ أحيانًا أبحث عن ورقة لأدوّن تفاصيل الحلم، كمن يحاول الإمساك بفقاعة قبل أن تنفجر. لكن مهما اجتهدت، يبقى شيء من سحره عصيًّا على اللغة، وكأن الحلم يصرّ على أن يظل ملكًا خالصًا لعالمه السري؛ فكن متصالحا مع أحلام، فاالأحلام ليست أوهامًا عابرة ولا صورًا عشوائية، بل رسائل مقدسة من ذاتك العميقة، تنبض بالصدق وتفيض بالحكمة. تصالح معها؛ امنحها وقتًا لتتأملها، لا تهرب من رعبها ولا تتجاهل جمالها. دوّنها، وتأمل رموزها، واترك لها فرصة لتكشف لك ما لم تستطع الحياة اليومية أن تقوله. فربما في حلمٍ عابر إشارة لطريق جديد، أو دعوة للصلح مع ماضٍ مثقل، أو حتى بادرة أمل لواقع أجمل قادم.
في النهاية، لنتذكر أن الأحلام ليست سوى مرآة الروح. وإن كان الواقع لا يرحم، فإن الحلم يبقى تلك المساحة الحرة التي تمنحنا الأمل، والإلهام، والسلام الداخلي.
مقال رائع يمثل نموذجًا رفيعًا في سبر أغوار الأحلام وعلاقتها بالواقع، بأسلوب متقن يجمع بين التحليل النفسي والإبداع الأدبي.
أبدعت حقًا دكتور. عبد الرحمن الوعلان
شكرًا من القلب أستاذة أماني على كلماتك النبيلة التي أعتبرها وسامًا أفتخر به. شهادتك تعني لي الكثير، فهي صادرة من قلم مبدع ووعي مسرحي راقٍ لطالما ألهمنا بقراءاته وتحليلاته العميقة.
ومنكم نتعلم ..سعادتي مضاعفة لأن المقال لامس ذائقتك النقدية والفنية، وهذا يدفعني للاستمرار في الغوص أعمق في عوالم الإبداع وتحليل الظواهر الإنسانية بروح أدبية ووعي معرفي.
امتنان كبير لحضورك الذي يثري النص ويمنحه بعدًا أوسع🌹