خيالات المآتة وغازي القصيبي

رحم الله الدكتور غازي غازي القصيبي رحمة واسعة، كان رجل يجتهد بصدق لإيجاد مساحات ثقافية في طول البلاد وعرضها، ويدعو إليها من خلال كتبه ومقالاته ولقاءاته وأمسياته الثقافية، وأحدث في تلك الفترة حراكاً ثَقَافِيًّا وَمُعْرَفِيٌ، له ما له، وعليه ما عليه، كأي جهد بشري، جهد يحتمل الصواب والخطأ، ولكنه بلا شك، فجر طاقات وطنية لا مثيل لها، في مرحلة كانت غاية في الصعوبة، حيث كان الوطن تتجاذبه من كل مكان تيارات فكرية مختلفة، وَيُنْشَدُ له الاستقرار.
والآن نحن نعيش في مرحلة في غاية الخطورة، مرحلة تتصارع فيها الأفكار بقوة وعنف، وَأَرَاهَا أخطر وأشرس من ذي قبل، إذ تستهدف اليوم عقيدتنا وهويتنا ووطنيتنا ودولتنا على نحو صريح وعلني، والغلبة ستكون للأقوى، الأقوى حجة ومعرفة وثقافة، والأقوى معنويا وفكريا وثقافيا.
والثقافات، باتت كثيرة، وَ تُتَدَاوَلُ بسهولة عبر قنوات التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام المختلفة، وتحمل الغث والسمين، والمفيد والضار، والحسن والقبيح، وأَفْرَزْت لنا بعض الضَّلَالَاتُ الفكرية، وانتشار الانحلال، والتخلص من قيود الأعراف، والعادات، والدين، بالإضافة للتطرف والعنف والإرهاب الذي عَانَيْنَا منه الْأَمْرَيْنِ مدة طويلة، ولا تزال آثاره بيننا، وإن خفت، وتسببت بجمود فكري وعقلي لبعضنا في الفهم الصحيح للنصوص، وغلظتهم التي تتنافى مع صحيح العقيدة، والفهم السليم، ويرغبون في جرنا إلى كهوف الماضي بمفرداتهم القاسية، وجهلهم المركب.
وفي الوقت الذي كانت تنتشر فيه المراكز الثقافية والنوادي الأدبية في ربوع الوطن، والعاصمة، والمدن، والمحافظات، كان غازي القصيبي يدعو لاستغلالها في بناء الإنسان بِنَاءً حَقِيقِيٌّ، ولكنها، ظلت على حالها مهجورة إلى أن مات، خالية من المخلوقات إلا من الجن، لا يدخلها إلا من كانت له فيها أنشطة “وظيفية”، وتبقي بالعام والعامين مهجورة دون تفاعل، أو أدنى مؤشر يدل على الحياة، مع أنها يمكن أن تكون في تلك الفترة باب مهم للثقافة والفكر، تتكامل مع المسجد، ووسائل الإعلام في بعث المعرفة المستنيرة القائمة على أسس هويتنا، وديننا، وتاريخنا، ولغتنا كما كان يدعو إليها رحمه الله.
ولأن المراكز الثقافية والنوادي الأدبية تعيش من تلك الفترة، وإلى يومنا هذا في أبراجها العاجية، ولا نستطيع التواصل معها مباشرة إلا من وراء حجاب، سأطرح هنا فكرة الرد على “مركز تكوين”، صاحب الأفكار المناهضة لعقيدتنا، ولثوابتنا، ونشر أفكاره الإلحادية بين أبنائنا، لمواجهته ومواجهة الذين يتبنون أفكاراً تهدف إلى هدم ثوابت عقيدتنا، وهويتنا الوطنية، باعتباري أحد المعنيين، والمتخصصين، في تفكيك الفكر بالحجج والأدلة والبراهين، أقول. كما قال القصيبي، نحن بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في مهام المراكز الثقافية والنوادي الأدبية، وتوابعها، والنظر إلى المتغيرات الجديدة بعين الاهتمام، والحذر الشديد، والاتجاه نحو إقرار خطة حكومية ثقافية فنية إعلامية علمية منهجية للتأكيد علي ثوابتنا، والدفاع عن هويتنا، تسير جنباً إلى جنب مع ما نشهده من تطوير في خططنا التعليمية، تتولى بناء فكر إبداعي مستنير يتفق مع ثوابتنا وعقيدتنا، سيما وأن أعداء الوطن بالفعل يريدون تشكيكنا في أنفسنا من خلال نشر كل ما هو شاذ ومنحرف وضال.
نحن، يا سادتي، بحاجة إلى “مراكز معرفة في كل مكان” باعتبارها سبيل من سبل إنارة العقول والقلوب، والارتقاء بأخلاقنا، وقيمنا، وتحصيننا، وتحصين أبنائنا، وبناتنا، وأمتنا، من جَرَبَ رعاة الفوضى والانحلال، بحاجة لنوجه جهودنا نحو بناء مراكز ثقافية، وفكرية، واجتماعية، جَدِيدَةً فَكُرٌّ، وَمَضْمُونًا، وَمُحْتَوًى، لضمان مستقبل أَكْثَرَ إشْرَاقًا وَاسْتِقْرَارًا لأجيالنا القادمة.
فالتحديات التي نُوَاجِهُهَا اليوم، تتطلب منا العمل بروح الفريق الواحد، وتضافر جهود المؤسسات الثقافية، والدينية، والتعليمية، لمواجهة هذه التحديات الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، أو العمل على تطوير المراكز الثقافية، والنوادي الأدبية الحالية لتصبح منارات علمية وثقافية، تسهم في بناء الفرد والمجتمع، وَتَحَصُّنُهُمْ ضد الأفكار الهدامة والمتطرفة، بدلا من الجمود الحالي الذي تعيش فيه، أو نغلقها، ونجعل خيالات المآتة بداخلها في “بِتَرَيُّنِةٌ”، وتزورها الأجيال القادمة للعبرة، أو للتقاط الصور التذكارية.
محمد الفريدي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مقال من النوع النفيس الرائع
في الموضوع والفهم العميق
والطريقة التي عرض بها
شكرا شكرا شكرا لكم
وإلى الأمام دائما وابدا…