كُتاب الرأي

خنبقاتنا وأدب الاعتراف

 

أدب الاعتراف أدب غربي فريد من نوعه، وأول من كتب في هذا النوع من الأدب (القديس أوغسطينوس) في القرن الرابع الميلادي، وتعد (اعترافاته) من الاعترافات الدينية التي يؤمن بها اتباع الكنيسة المسيحية، وتكشف اعترافاته عن صراعاته الروحية والفكرية، ورحلته في البحث عن الذات والإيمان، ثم تبعه بعد ذلك في القرن الثامن عشر الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) في كتابه الشهير (اعترافات جان جاك روسو) الذي يعد من الاعترافات الدنيوية، وقدم فيه سرد صريح لحياته الشخصية وعلاقاته وأفكاره.

وفي أدب الاعتراف يقوم الكاتب بالكشف عن أسرار وتجارب شخصيته بصدق وأمانة وشفافية، ويتميز هذا النوع من الأدب بتجذره في الثقافة الغربية، حيث يتعلق بالتعبير عن الذات والبحث عن الهوية، ونحمد الله أنه لا يوجد هذا الأدب في ثقافتنا العربية، وإلا لصارت فضائحنا “بجلاجل”.

وأدب الاعتراف يمتاز ببعض السمات الفريدة، مثل الوضوح والصدق والشفافية، ويشارك الكاتب القراء تفاصيل حياته وتجاربه الشخصية بشكل مفصل ودقيق، ويركز على مشاعره وأفكاره الخاصة، وغالب ما يتضمن تحليلات وتأملات نفسية حول الذات والتجارب التي مر بها، والهدف من سرد اعترافاته غالبا هو تقديم نظرة عميقة عن نفسه، وفهم ذاته واكتشاف هويته.

كان لأدب الاعتراف تأثير كبير على الفكر والثقافة في الغرب، حيث سمح للقراء بالاطلاع على حياة الكتاب وتجاربهم الشخصية، وساعد في تعزيز أهمية الصدق والوضوح ﻭ الشفافية في الأعمال الأدبية والفنية.

وهو واحد من أكثر الأنواع الأدبية تأثيرا في الثقافة الغربية، حيث يعكس قدرة الأدب على تقديم رؤى عميقة عن النفس البشرية، و من خلال الصراحة والشفافية، يتيح هذا الأدب للقراء معرفة تجارب وآلام وأفراح الآخرين، مما يعزز من فهمهم للذات الإنسانية.

ومع ازدهار الحركة النسوية في النصف الثاني من القرن العشرين خاضت المرأة الغربية مضمار أدب الاعتراف، وقدمت إنتاجاً أدبيا مثير للجدل، و من فرط جرأته قوبل بالنقد داخل المجتمع الغربي الذي أفرزته، ويتركز أدب الاعتراف النسوي حول الحياة الشخصية للكاتبة، وخاصة ما يتعلق بجسدها، وكتبن بعضهن عن حالات الاغتصاب والتحرش الجنسي التي تعرضن لها، وأخريات عن مشاكل سرطان الثدي الذي اصبن به، والاعتراف النسوي في الغرب علي كل حال نوع من أنواع السلع يهيمن على الساحة بعد الاعتراف الديني والدنيوي.

وترجع ندرة هذا النوع من الأدب في التراث العربي القديم والحديث، كما يقول بعض المفكرين والمثقفين العرب إلى عدة عوامل أخلاقية ودينية، بالإضافة إلى تأثير الظروف الاجتماعية القديمة والحالية، وكل كاتب عربي يحمل في داخله رقيب داخلي يفوق في شدته رقيب المجتمع، وهو ما يمنعه من التعبير عن ذاته بحرية.

ولهذا لجأ كثير من الكتاب العرب إلى استخدام أساليب الكتابة الدلالية دون ان يعترفوا بأنها تدل علي حياتهم الشخصية، وتجنبوا الإفصاح عن أن أعمالهم تستند لتجاربهم الشخصية، وذلك لأن التصريح بتفاصيل حياتهم الخاصة قد يؤدي إلى نبذهم من المجتمع، ففي ثقافتنا العربية، فكرة الاعتراف، وخاصة الاعتراف بالأخطاء والأفعال المشينة غير مقبولة قطعيا، حتى ولو كان الهدف منها هو تحذير الآخرين من الوقوع في الأخطاء.

ولهذا نادرا ما نجد أدب الاعتراف في ثقافتنا العربية، بسبب القيم التربوية والاجتماعية التي تمنع قبول هذا النوع من الأدب، والذي يعتبره البعض تحررا فكريا غير مقبول، وعلى مر العصور، ظل الأديب العربي يتجنب الإفصاح عن جوانب حياته الشخصية، ويضع رقابة ذاتية صارمة على كتاباته، وفي الجهة المقابلة، يعتبر المثقفون الغربيون هذه الرقابة نوعاً من الكذب والزيف والخداع، والتباهي بالمثاليات الفارغة، ويرون أن الكاتب الشجاع هو من يتحدى مجتمعه، ويطرح تجربته الشخصية بصدق وجرأة وشفافية، ويكشف عن حقيقته للناس، ويسقط أقنعته اولا ليتمكن من إسقاط أقنعة الآخرين.

وفي الحقيقة، لا يوجد تعارض بين أدب الاعتراف، والالتزام بالقيم، فالإبداع يتطلب الحرية كشرط أساسي، و الأخلاق يجب أن تكون جزء من جوهر الأدب الراقي، وكما ان الحرية كما يقال شرط من شروط الإبداع، فالأخلاق محور الأدب الخلاق، والكاتب الحقيقي هو من يستطيع أن يبدع في مجالات متنوعة دون أن يخالف مبادئ الحرية، والالتزام، فليس من العدل ﻭ الإنصاف أن يقمع الكاتب حسه الإبداعي خوفاً مما يطلق عليه “أوهام الالتزام”، بل ينبغي له أن يكون جريئاً في كشف الحقائق، والتعبير بصدق عن ما هو صواب، مع المحافظة على احترام القيم الأخلاقية التي يؤمن بها المجتمع الذي يعيش فيه.

لا شك أن مفهوم الاعتراف كما يمارس في الأدب الغربي يتناقض مع القيم والمبادئ الأخلاقية في شريعتنا الإسلامية السمحة التي تحثنا على ستر عيوبنا، وعدم المجاهرة بذنوبنا علنا، وأوصانا صلوات الله وسلامه عليه في عدة أحاديث بضرورة تجنب المجاهرة بالمعاصي، وحذرنا من عواقبها على الفرد والمجتمع، وتوعد المجاهرين.

إلا أن أدب الاعتراف ما زال يتطلب منا تفسيراً أوسع، إذ يسيء البعض فهمه على أنه مجرد سرد للتجارب الشخصية، والتطرق لقصص الجنس، والخلاعة، والتعري، ونشر الفضائح الأخلاقية بهدف الشهرة والربح المادي.

وهذا النوع من الأدب في الواقع تجاوز هذه التصورات السطحية، فهو أداة للتعبير الصادق، والكشف عن الذات، والفهم العميق للحياة والنفس البشرية.

ويميز أدب الاعتراف امتلاك الكاتب لمهارات وأدوات فنية راقية تتيح له تقديم تجاربه الشخصية بأسلوب متميز وفريد، و هذا النوع من الأدب يتطلب قدرة على تحويل التجارب الشخصية إلى عمل فني يجذب القارئ، ويثير اهتمامه، في حين تظل السير الذاتية واليوميات التقليدية التي تفتقر إلى الإبداع الأدبي مفتوحة أمام من ليس لديه القدرة على الإبداع الأدبي، و من المهم أن يميز القارئ بين الأعمال الأدبية التي تتمتع بقيمة فنية عالية وبين الكتابات العادية التي لا ترتقي لمستوى الإبداع.

على أي حال، تعتبر ثقافتنا العربية ثقافة تميل إلى الكتمان والسرية، ويحكمها معايير دينية واجتماعية كثيرة، ففي شؤون حياتنا اليومية، نستند إلى مبدأ “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”، لنخفى عن الناس أمورنا الشخصية خوف من العين و الحسد، و على الصعيد الدنيوي و (الخنبقة) نستند إلى المثل الشعبي المصري القائل “داري على شمعتك تقيد” والذي لا نستخدمه إلا في المسائل السرية الخاصة جدا، أو المتعلقة بالسرقات، والفساد الإداري، و المالي، و نصب الشباك لاصطياد النساء.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫10 تعليقات

  1. براعة في اختيار العنوان من كلمة فصيحة مهجورة تحولت من رعونة إلى ما نسميه (خربطة)، أو ( كلام ملغوص).
    تبعها جمال طرح خاصة في الحث على أدب الاعتراف الذي نفتقده كثيًرا في مجتمعنا العربي…
    مع أنه أصل من أصول ثقافتنا الإسلامية ..

    رعاك الله

    1. شاعرنا الكبير إبراهيم الدعجاني

      أشكرك جزيل الشكر على كلماتك الجميلة وتقديرك لما أكتب، و رأيك يعني لي الكثير، خاصة وأنه يأتي من شاعر مرموق مثلك.

      يسرني أنك وجدت استاذي في اختياري للعنوان براعة، وفي طرحي لهذا المقال جمالًا .
      فعلاً، أدب الاعتراف هو جزء مهم من ثقافتنا الإسلامية الأصيلة التي نفتقدها في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، وأتمنى أن أكون قد أسهمت ولو قليلاً في إحيائه من خلال مقالي.

      رعاك الله وحفظك، وشكرًا لك سيدي مرة أخرى على قراءتك وتعليقك.
      و تقبل تحياتي وتقديري.

      اخوكم
      محمد الفريدي

  2. اخي ابا سلطان :
    هناك فوارق كثيرة بين الكاتب الغربي والكاتب العربي المسلم ( بالذات) ..
    فالكاتب الغربي لا يستنكف عن كتابة أي شئ يراه أو يعتقد به حيث لايمنعه من ذلك لارادع ديني ولا أخلاقي ..
    أما الكاتب العربي فهناك أمور كثيرة كما ذكرت بمقالك الدسم جداً تمنعه وتقف حاجزاً أمامه كالوازع الديني والعرف المجتمعي والاخلاقي ..
    مقالاتك دائماً شيقة وتثير الاعجاب ..
    ولو استشهدت لنا ببعض (خنبقاتك ) أيام الصبى لاعطى المقال رونق آخر ..
    شكراً للكاتب وفي إنتظار وتلهف للمقال القادم .. تقبل تحياتي .

    1. أخي الحبيب سعادة المستشار أبو عبدالله.

      أشكرك جزيل الشكر على رسالتك الكريمة وكلماتك الطيبة التي أعتز بها كثيرًا ، و يسعدني دائمًا أن تجد في مقالاتي ما يثير إعجابكم واهتمامكم .

      أنت محق تمامًا في ملاحظتك حول الفوارق بين الكاتب الغربي، والكاتب العربي المسلم ، هناك بالفعل اختلافات جذرية في الدوافع والمعايير التي تحكم أسلوب الكتابة لدى كل منهما ، فالوازع الديني والعرف المجتمعي والأخلاقي يشكلون عوامل رئيسية تؤثر على الكاتب العربي المسلم، وتحدد له ما يمكنه وما لا يمكنه التعبير عنه.

      أما بالنسبة للكاتب الغربي، فلديه مساحات شاسعة في حرية التعبير، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل ما يكتبه يكون خاليًا من القيم الأخلاقية، لكل مجتمع كما تعلم معاييره الخلقية.

      سررت بطلبك بعض من “خنبقاتي” أيام الصبى، قد تكون هذه اللمحات من الماضي إضافة شيقة تضفي بُعدًا آخر على الموضوعات التي قد أتناولها بالفعل، وأعدك بأن أفكر في هذا الامر بجدية، بشرط ان تضمن لي الا ادخل الحبس 😂.

      أشكرك سعادة المستشار مرة أخرى على دعمك وتشجيعك المستمر، وأتطلع إلى مزيد من التفاعل المثمر.

      وتقبل تحياتي الحارة.

      أخوك
      أبو سلطان

    1. اختي الكريمة الاستاذة الفاضلة / ابتسام

      أشكرك جزيل الشكر على كلماتك الطيبة وتقديرك لموضوعي، ويسعدني جدًا أن تجدي في كتاباتي ما يستحق الدراسة والاهتمام.
      و تقبلي فائق تحياتي وتقديري.

      اخوك
      ابو سلطان

    1. الأستاذة القديرة فتحية علي

      أشكرك جزيل الشكر على كلماتك الرائعة وتشجيعك الدائم ، ويسعدني جدًا أن ينال مقالي إعجابك، وأن تجدي فيه ما يعكس خلفية ثقافية أدبية مميزة.
      و تقبلي فائق تحياتي واحترامي.

      اخوك
      ابو سلطان

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ما شاء الله تبارك الله
    مقال أدبي ثقافي اجتماعي أصيل وبديع
    ( ويميز أدب الاعتراف امتلاك الكاتب لمهارات وأدوات فنية راقية تتيح له تقديم تجاربه الشخصية بأسلوب متميز وفريد، و هذا النوع من الأدب يتطلب قدرة على تحويل التجارب الشخصية إلى عمل فني يجذب القارئ، ويثير اهتمامه،..)
    شكرا شكرا لكم أبا سلطان
    على الغوص في الكتابة والتصوير إلى هذا المستوى العالي.
    إلى الأمام دائما وابدا…

    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

      أستاذي القدير الدكتور سالم بن رزيق.

      أشكركم من أعماق قلبي على كلماتكم الراقية وتشجيعكم المستمر ، ويسعدني جدًا أن ينال مقالي إعجابكم وتقديركم، وأن تجدوا فيه ما يرقى إلى مستوى توقعاتكم الأدبية والثقافية.

      إن دعمكم وتحفيزكم المستمر استاذي هو دافع كبير لي لمواصلة الغوص في عوالم الكتابة والتعبير بأفضل ما أستطيع، فجزاكم الله عني خير الجزاء، وبارك فيكم ونفعنا بعلمكم الغزير.
      و تقبل فائق تحياتي واحترامي.

      اخوكم
      أبو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى