كُتاب الرأي

حين يسكن القلب وتصفو الظنون

حين يسكن القلب وتصفو الظنون

باسم سلامه القليطي 

في زحمة الأفكار التي تقتحم أذهاننا، وفي دوامة الظنون التي تتقاذف قلوبنا، يقف قول (عبدالله بن محمد بن منازل) كنافذة نور:
“أفضل أوقاتك وقت تسلم فيه من هواجس نفسك، ويسلم فيه الناس من سوء ظنك.”
كلمات قصيرة، لكنها تفتح بابًا واسعًا لمعنى الطمأنينة، حيث لا حرب داخلية مع النفس، ولا معارك صامتة مع الآخرين.
الهواجس هي أشبه بغيوم سوداء تحجب صفاء الروح. حين تبتعد عنك وساوس الخوف والقلق، وتخمد نار المقارنات والحسد، تشعر بخفة غريبة كأن قلبك صار طيرًا يحلق بلا قيود. ذلك السلام الداخلي هو بداية السعادة الحقيقية، لأنه يحررك من نفسك قبل أن يحررك من الناس.
كم من علاقات انهارت لا لشيء إلا لأن الظنون تسللت إليها، كم من صداقات تبعثرت لأن أحدهم فسر نظرة عابرة أو كلمة عادية على أنها طعنة خفية، حين يسلم الناس من سوء ظنك، فإنك في الحقيقة تهب نفسك راحة أعظم من راحتهم، لأن حمل الشك أثقل من حمل الصخر، ولا شيء يفسد القلب مثل الاتهام الدائم للآخرين.
ليست السعادة في عدد الساعات التي نقضيها في المتع الظاهرة، بل في تلك اللحظات التي يسودها السلام. أن تعيش ساعة بلا صراع داخلي، بلا لوم للنفس، بلا سوء ظن بالناس، هي أعظم من أيام مليئة بالركض وراء سراب الرضا. هنا نفهم معنى “أفضل أوقاتك” كما أرادها ابن منازل؛ وقت نقي، صافٍ، يُشبه قطرة ندى على ورقة يانعة.
ومن إنشاده:
يا من شكا شوقه من طول فرقته
اصبر لعلك تلقى من تُحب غدا
الشوق هنا ليس مجرد وجع، بل هو حياة تتحرك في العروق، ودليل أن القلب لم يمت تحت ركام الهواجس. من يصبر على شوقه، يذق طعم اللقاء أضعافًا، لأن الانتظار صفّى قلبه من الضجر، وغسله بماء الأمل.
كيف نصنع هذا السلام؟ بالتعوّد على حسن الظن بالله أولًا، ثم حسن الظن بالناس. بالتقليل من سماع الشائعات، ومنح الآخرين الأعذار، والتغافل عن الزلات. والأهم أن نوقف سيل الحوار السلبي مع أنفسنا، ذلك الحوار الذي يصنع هواجس من العدم ويزيدها حجمًا كلما فكرنا فيها.
إذا وجدت نفسك تعيش وقتًا خاليًا من الوساوس وسوء الظن، فتمسك به جيدًا، فهو ليس مجرد لحظة عابرة، بل هو أرقى درجات الحياة. هناك، في هذا الصفاء، تصبح الروح قادرة على الحب بلا خوف، والعطاء بلا حساب، والشوق بلا قيد. هناك، يصبح العالم ألين، والوقت أصفى، والروح أقرب إلى مولاها من أي وقت مضى. ومن ذاقه مرة، سعى إليه ألف مرة.

كاتب رأي

باسم القليطي

كاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى