حين يبكي المهرّج وتحترق المدينة

محمد الفريدي
حين يبكي المهرّج وتحترق المدينة
في ركن معتم من إحدى اللوحات الفنية التي شاهدتها اليوم، يجلس مهرّج وحيد، لا يضحك ولا يثير البهجة، وتبدو نظراته المتجهمة كأنها تفصح عن مأساة أكبر من أن تُقال؛ أمامه رسالة تحمل خبر سقوط مدينته، وخلفه قاعة احتفالات تعجّ بالراقصين والمحتفلين، يمرح فيها النبلاء وعلية القوم غير مهتمّين بالكارثة.
هذه اللوحة رسمها الفنان البولندي يان ماتيجكو عام 1862، واختزل فيها جدلية الإنسان والسلطة، والوعي والغفلة، والحقيقة والزيف؛ إنها لوحة “المهرّج” التي لا تزال، رغم مرور أكثر من قرن ونصف على رسمها، تفتح باب أسئلة كثيرة.
تروي اللوحة قصة مهرّج بولندي يُدعى ستانتشيك، أحد أشهر مهرّجي البلاط في تاريخ بولندا، والذي يُقال إنه لم يكن مهرّجا بالمعنى الحقيقي، بل كان حكيما ساخرا يمتلك شجاعة قول ما لا يُقال في البلاط الملكي البولندي؛ في هذه اللوحة يكفّ ستانتشيك عن دوره المعتاد كمهرّج، ويظهر كرمز للمثقف المهمّش الذي يرى خراب مدينته قبل أن يُعلن سقوطها بيد الروس، ويشعر بالألم قبل أن تعرف الناس الخبر أو تشعر بالخطر.
فبينما تلهو الطبقة الحاكمة والمخملية في الخلفية، يحدّق هو في الرسالة حزينا منعزلا، وكأن يقظته صارت عبئا لا يُحتمل؛ ولوحة ستانتشيك المهرّج لا تُظهر مهرّجا يضحك، بل تُجسّد مأساة إدراك مؤلم وصفه الفيلسوف الألماني هيغل بـ : مأساة من يرى الخراب يحلّ في مدينته ويعجز عن إيقافه.
ويجلس في الظلّ، وكأنه يُمثّل كل مثقّف في هذا العالم، يقرأ علامات سقوط وطنه، ويشعر بانهياره، ويدرك زيف احتفالاته، لكنه لا يجد مكانا لصوته وسط الضجيج؛ وفي صمته هذا تكمن مأساة المثقف الذي يعرف الحقيقة، لكنه محاصر في مجتمع يختار الصمت على الواقع؛ ووجهه الشاحب لا يحتاج إلى شرح، فهو لوحة لمأساة إنسان يعرف أكثر مما يُسمح له أن يقول.
اللوحة، ببساطتها الظاهرية، تفضح فجوة كبرى بين الداخل والخارج، وبين يقظة الفرد وغفلة الجماعة؛ وخلف الباب أضواءٌ وموسيقى وكؤوسٌ تُرفع وتُقرَع ابتهاجًا بجمال اللحظة، لكن لا أحد يجرؤ أن يسأل: لمن تُرفع الكؤوس؟ وعلى أنقاض مَن تتراقص الأضواء ويتمايل هؤلاء؟
وفي المقدمة يجلس المهرّج بلا ضوء سوى شعاع باهت يسقط على الورقة، كأن الحقيقة لا تحتاج أكثر من نظرة لتُفهم وقلب صادق ليحزن لها، لكنها تظلّ صامتة لأن من حولها اختاروا الرقص على أنينها بدلا من الإصغاء لوجعها؛ إنها استعارةٌ دقيقة لواقعنا المرير، حيث تختلط احتفالاتنا بانهياراتنا غير المعلنة، والجميع يصفّق، وبلادنا تحترق.
حين سقطت مدينة سمولينسك في يد الروس، لم يكن الملك يان الثاني كازيمير فاسا، ملك بولندا ودوق ليتوانيا الأكبر، في ساحة المعركة، بل كان في حفلة راقصة بالبلاط الملكي، كأن سقوط مدنه لا يعني شيئا ما دام تاجه فوق رأسه، والموسيقى الصاخبة تعلو على صوت المدافع.
هذه الواقعة تحولت في نظري من لوحة فنية إلى نقد صارخ للنخب اللامبالية بمزاجها.
فكم من دول اليوم ترقص على جراحها؟ وكم من خطابات نصر تُلقى فوق مقابر جماعية؟
وكم من بيانات تُبثّ للعالم بينما الحقيقة تُدفن في حفرة بلا شهود ولا عزاء؟
وكم من زعماء يبتسمون للكاميرات، وأوطانهم تتآكل خلف الكواليس؟
وكم من المهرجون الحقيقيون يرتقون منابر إعلامنا، وتُقصى الكلمة الحرة، القوية، الصادقة؟
ومع ذلك، تبقى الحقيقة صامدة، تنتظر من يحررها من أسر صمتنا وسكوتنا المذلّ.
في عالم اليوم، تتكرر لوحة ستانتشيك على نطاق واسع؛ ففي كل عاصمة تُرفع فيها الكؤوس وتُقرَع، هناك مثقف يجلس وحيدا في زاوية يقرأ خبر سقوط وطنه، بينما شاشاته تعجّ بالأكاذيب، صار الولاء شعارات تُردد بلا وعي، والخيانة تُغطى بالمساحيق، والصمت يفرض نفسه علينا كقيد لا مفر منه.
إنه الفرق بين من يعيش في صالات الاحتفالات على الدوام، ومن يقبع على هامش الوطن يقرأ النص الأصلي كما هو؛ فالأول يحتفل بما يُعرَض له، والثاني يحمل عبء الحقيقة التي لا يجرؤ أحد على مواجهتها.
ولهذا سيظلّ التاريخ يحفظ أسماء من قالوا الحقيقة في وقتها، وينسى من زيّن الأكاذيب ليُرقص على أنغامها مع العوام.
في ثقافتنا المعاصرة، ارتبطت كلمة ” مهرّج ” بالتهريج والسطحية، لكن ستانتشيك يعيد في هذه اللوحة تعريف الكلمة؛ فالمهرّج ليس بهلوانا ولا أراجوزا، بل هو ضميرٌ حيّ في لباس مهرّج؛ والمهرّج الذي يشعر بالخراب قبل وقوعه أفضل من ألف مثقف لا يقول الحقيقة بأبسط الأدوات ولا يخترق حجبنا السميكة بلا استئذان.
إنه الصوت الذي لا يُراد له أن يُسمع، والمرآة التي تكشف زيف هؤلاء وهؤلاء؛ يختبئ في الظلّ لكنه لا يتوقف عن الصراخ، لأنه يعلم أن الصمت ليس حيادا كما يظن السخفاء، بل خيانةٌ عظمى تمنح الفساد والجبناء فرصة أخرى للتجمّل والبقاء.
في وجه المهرّج الجامد نرى نسخة من فنان معاصر، يُطلب منه أن يُسلّي الحضور وهو مملوءٌ نكدا من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه، وأن يُضحك الجمهور وهو يتألّم؛ كأنّ الإبداع صار قناعا ثقيلا على وجهه، يُخفي خلفه قلبا يتصدّع بصمت، وروحا تُستنزف كل ليلة لتُبقي وهم السعادة حيّا، بينما الداخل ينهار بلا تصفيق ولا صوت يُسمع.
وبينما يقف العالم متفرّجا في المسرح، يستمرّ عرض كوميديا الألم، ويصبح الصمت أبلغ كلمة في وجه الحقيقة التي يرفض الجميع الاعتراف بها، حتى لو انكشفوا أمام مرايا ضمائرهم العارية.
فستانتشيك، بهذا المعنى، ليس ماضيا بولنديا أكل عليه الدهر وشرب، بل لا يزال، رغم البعد، يشبه حاضرنا؛ حيث نطلب من الشاعر أن يمدح، ومن الكاتب أن يُهرّج ويُطبّل، ومن الفنان أن يتماشى مع واقع لا يمتّ له ولا لنا بصلة، وهم جميعا يكذبون. فنحوّل مواهبنا إلى أبواق، وحسّنا الإنساني إلى سلع، ونُخرس أصواتنا الحرّة باسم الذوق، و المصلحة العامة ، و الوقت غير المناسب .
لكن ستانتشيك لم يفعل ذلك، بل انسحب إلى ظلامه وهو يتمسك بالحقيقة وحده؛ فاختار العزلة على الزيف، والحزن على المجاملة، والصمت الصادق على التصفيق والتهريج؛ لأنه يدرك أن ضميره الحي لا يساوم عليه، حتى لو بقي وحيدا بين جدران غرفة تغرق في الصمت والهدوء والنسيان.
ما فعله يان ماتيجكو في هذه اللوحة أعاد للفن وظيفته الأصلية، بأن يكون مرآة للحقيقة لا مرآة للغش والخداع؛ فقد أجبر المتلقي على مواجهة ما يهرب منه، ولم يجعلها لوحة جميلة تزخرف أجنحة القصور، بل جعلها لوحة شجاعة تشقّ الصدور.
فالفن يجب ألّا يكون لتزيين الجدران، بل صدمة توقظ ضمائرنا الغائبة، وصفعة تؤلم عقولنا المتبلدة، وتذكّرنا بأن الحقيقة، رغم قسوتها، هي أساس نهوضنا وبقائنا على قيد الحياة، وأن تجاهلنا ومراوغتنا لا يغيّران من الواقع شيئا سوى تكريس انهيارنا وتعميق جراحنا؛ والحقيقة التي تصدمنا اليوم خيرٌ من أكاذيب نغنّي لها حتى تغرقنا جميعًا تحت أنقاضها، وتتركنا نبحث عن خلاصنا بين الركام الذي صنعناه بأنفسنا.
الفنان الحقيقي، كما أراد ماتيجكو أن يقول، لا يختبئ خلف الألوان، بل يهاجم بها الأعداء، ولا يُلهي الناس عن أوجاعهم، بل يكشف لهم كيف يبدأ الألم وكيف ينتهي، ولا يصنع لوحاته ليرضى بها الأباطرة والملوك والحكام، بل يصنع بها ضميرا حيّا ويوقظ به وجدان شعوب تحتاج دائما إلى من يذكرها بأن الفن صوتٌ أعلى من صوت كل ظالم متسلّط، وأقوى من كل زيف يُروَّج له، وأبقى من كل تاج يلمع فوق رؤوس لا تسمع الحقيقة، ليصبح فنه سلاحا لا يُقهَر، وصوتا ينادي بالحرية والكرامة في وجه الصمت والخضوع والطغيان.
كاتب رأي