حين نخنق الكلمة يموت الوطن

محمد الفريدي
حين نخنق الكلمة يموت الوطن
في أزمنة القهر، لا تكون الشرارة الأولى للثورات بندقية، ولا تهتز العروش بصرخة في الشوارع فقط، بل غالباً ما تبدأ الحكاية بكلمة.
جملة صغيرة يكتبها أديب في مقال، أو حوار هامس بين شخصيات في رواية، تزرع في الوجدان شوقاً للكرامة، ورفضاً للمهانة.
المقال والرواية لا يحكيان فقط ما جرى ويجري وما قد يجري، بل يستشرفان ما يمكن أن يحدث في المستقبل.
فهما ذاكرة الشعوب حين تُغتال، وبوصلة الوعي حين تتيه الحقيقة في زحام الأكاذيب.
وحده الكاتب الحقيقي هو من يقرأ ملامح الانفجار قبل وقوعه، حين يلمح في وجوه الناس تلك الحيرة المتعبة، ويشعر في صمتهم بالغضب المكبوت، ويصغي إلى أنين لا تلتقطه الأجهزة الأمنية، ولا تقرأه مراكز الدراسات.
ولهذا السبب، يجب على السياسي أن يقرأ المقال والرواية، لا للتسلية، بل ليعرف متى يُصلح وطنه قبل أن ينهار، وقبل أن يتحوّل الصمت من علامة رضا إلى عاصفة لا تُبقي ولا تذر.
الكاتب الحقيقي لا يغيّر الواقع بالشعارات الصاخبة، بل بالتنبيه المبكر، وتعرية الغطرسة التي تُصيب بعض الأنظمة حين تُبتلى بتخمة القوة، ويوقظ الوعي النائم، ويزرع بذور النهضة في عقول الأجيال القادمة.
وحين يغيب هذا النوع من الكتّاب، أو يُحاصر، فإننا لا نفقد كاتباً فقط، بل نفقد جهازاً أمنياً من أجهزة الإنذار المبكر.
لقد كتب ألكسندر دوماس، الأديب الفرنسي الكبير، عن الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789، فوصفها بأنها لم تكن انفجاراً في لحظة، بل نتيجة تراكمٍ للوجع، والجهل، وغياب الكلمة الصادقة.
ورغم أنه وُلد بعد الثورة بأكثر من عشر سنوات، فإن كتاباته كانت شاهدةً على أثر الكلمة القوية حين تتراكم في الوجدان.
فالثورة الفرنسية، كما رآها، لم تبدأ بخطبة رنانة منمقة أو سيفٍ مسلول، بل بكلمات ظلّ المثقفون والكُتّاب يرددونها عن “الحرية”، و”المساواة”، و”الاستقلال”، حتى تسللت إلى وعي الفلاحين، كما يتسلل الضوء إلى عتمة القهر، فتغيّر مزاج الشعب الفرنسي تدريجياً، وتحوّل الصمت إلى صرخة، والرضا إلى ثورة قلبت عرش الملك رأساً على عقب.
فوقف عاجزاً لويس السادس عشر، آخر ملوك فرنسا قبل الجمهورية، أمام تصاعد هذا الوعي الشعبي. وحين لم تُجدِ خطبه ولا وعوده آذاناً صاغية، أسدل التاريخ الستار عليه في مشهدٍ درامي انتهى بإعدامه بالمقصلة عام 1793، ليكون سقوطه تتويجاً لغضبٍ صنعته الكلمة أكثر مما صنعه السيف.
وهنا تكمن خطورة الأدباء والكتّاب، وجمالهم في آنٍ واحد؛ فهم السلاح ذو الحدين الذي لا يُرى، والقوة الخفيّة التي تحرّك الجموع بصمت، والصوت الذي يصدح حين تسكت جميع الأصوات.
ولا يخاطبون السلطة، بل يخاطبون الوعي الشعبي؛ ولا يطلبون التصفيق من أحد، بل يثيرون الأسئلة، ويوقظون العقول، ويمنحون الألم صوتاً، والمعنى روحاً.
ولا يكتبون لإرضاء النخب، بل لإيقاظ الناس، وتفكيك قناع الوهم.
ولا يسايرون الواقع، بل يخلخلونه، ويبددون الظلام حتى تنهار أقنعته، وتنكشف ملامحه أمام الناس لتبدو كما هي، بلا تزييف ولا تجميل.
ولا يناورون في الصحف، بل يحاورون الأرواح في عزلتها؛ ولهذا تلاحقهم الرقابة، ويخافهم الطغاة.
فالسلطة تستطيع أن تسجن الجسد، لكنها لا تستطيع أن تمنع وصول قصة أو مقال إلى قارئ مغمور في قرية بعيدة، يوقظ فيه إحساساً دفيناً بأن له كرامة تستحق أن يموت في سبيل الدفاع عنها.
حين بدأت أكتب في الشأن العام قبل خمسين عاماً، لم تكن المصادر كافية آنذاك كما هي اليوم، والناس في أوقات الخوف لا يقولون الحقيقة، لذلك لجأت إلى كتابة المقالات الوجدانية؛ فهناك، بين السطور، وجدت الهمَّ الحقيقي، وقرأت في الوجوه ما عجزت الألسن عن قوله، ووجدت فيها ما تخشاه الأنظمة أكثر من غضب الجماهير في الشوارع المحتقنة.
وكلُّ طاغيةٍ يظنُّ أنَّ شعبه يهيمُ به حبّاً، لم يكن يقرأ المقالاتِ التي تُكتَبُ في صحفِ بلاده.
وكلُّ زعيمٍ يُراهِنُ على صمتِ شعبه حتى النهاية، لم يكن يُدركُ أنَّ الصمتَ أحياناً يكونُ تمهيداً لزلزالٍ عظيم.
والذين يستهينون بالصمتِ والكلمةِ، هم أنفسُهم من يُفاجَؤون بانفجارٍ لم يتوقّعوه، لأنهم كانوا يُراقبون البنادقَ، لا أقلامَ الكتّابِ الذين يدسّون السُّمَّ في العسل، ويُشعلون شرارةَ التمرُّدِ بكلمةٍ، وتسبقُ حروفُهم صخبَ الشعوبِ، وتُمهِّدُ للغضبِ طريقَه دون أن تُطلَقَ رصاصةٌ واحدةٌ.
والمشكلة ليست في الأنظمة وحدها، بل أيضاً في الكتّاب والأدباء الذين اختاروا أن يكونوا بوقاً لا بوصلة، وأن يتحولوا من كاشفين للباطل إلى مدافعين عنه.
هؤلاء ليسوا كتّاباً ولا أدباء، بل أصباغٌ خاوية على واجهات مهترئة، لا تقول الحقيقة بل تخفيها خلف ستار من الخداع والرتابة.
الثورات لا تبدأ بالرصاص، بل بكلمة تخرج من قلم مسموم، في زمنٍ محكوم بالخوف والصمت.
ولهذا، فإن أول ما تفعله الأنظمة المستبدة حين ترتجف هو مصادرة الكتب، ومراقبة القصائد والشعراء، وإغلاق الصحف والمجلات، وإيقاف الكتّاب والأدباء عن الكتابة، لأنها تدرك أن الحرف أشدُّ قوة من المدفع، وأن القلم قادر على هزيمة الجنرالات.
فليقرأ القادة المقال والرواية قبل أن يُكتب عنهم ما لا يحبون قراءته، وليُصغوا لحكايات الناس من خلال المقالات والروايات، لا من خلال تقارير المخابرات فقط؛ فهناك، بين السطور البسيطة، قد تنبعث أول ومضة تُنبئ ببزوغ فجرِ ثورةٍ لا يستطيعون صدَّها، وصوتِ حقيقةٍ لا يمكن كتمُه مهما اشتدَّت الضغوط، والوعي الذي ينبثق من تلك الصفحات الصامتة، هو الذي قد يصنع الفوضى أو يُمهّد الطريق نحو الهدوء، قبل أن تخرج الأحداث عن سيطرة الجميع.
والأنظمة المستبدة تخشى الكاتب الحقيقي، لأنه لا يُروّض، ولا يُدار من خلف ستار، وكلمته الصادقة لا تُخضعها أجهزة الرقابة، ولا تُرهبها عيون الأجهزة، لأنها ببساطة تنبع من ضمير حي يرى ما لا يراه الجميع، ويقول ما لا يود سماعه الآخرون.
إن الكاتب الحقيقي ليس ناطقاً رسمياً باسم أحد، ولا وسيطاً لتسويق مشاريع سياسية، بل هو جهاز إنذار مبكر يُطلق صرخته حين يرى الشر يتسلل من تحت جدران الظلام، ومن هنا تكمن خطورته على الأنظمة المستبدة التي تبني استقرارها على الخوف والسكوت، وتُسكِت أصوات كتّابها بدعوى الأمن والتقاليد والطاعة العمياء.
فكل قصة ظلم تُكتب، وكل رواية تُصوّر البؤس، وكل بيت شعر يحفر في جدران القهر، هي في حقيقتها وثيقة إدانة للسلطة العمياء المستبدة، ومحاولة لاستنهاض الكرامة التي دُفنت في الأقبية، أو بيعت في دهاليز المساومات.
لقد علَّمَنا التاريخُ أنَّ الكلماتِ التي تولدُ في زوايا القهرِ المُعتمة، أو تُكتَبُ تحت ظلالِ البنادقِ، هي أصدقُ من تقاريرِ مراكزِ الدراساتِ الاستراتيجية، وأكثرُ قدرةً على إيقاظِ الدولِ من الأصواتِ المؤيِّدةِ أو المُناوِئة؛ فهي لا تستمدُّ شرعيَّتَها من مسرحيّاتِ البرلمانات، بل من عمقِ المُعاناةِ، ومن قلوبٍ أنهكها الظلمُ ورفضت أن تصمتَ أمام الجلّادِ.
ولهذا ستبقى الكلمةُ، وإن حاصروها، أشدَّ خطراً من الرصاصِ، لأنَّها لا تقتلُ جسداً، بل تفضحُ نظاماً، وتوقظُ وعياً، وتُشعلُ ثورةً تبدأُ من العقلِ وتنتهي بسقوطِ الطغيانِ.
فالحريَّةُ والمساواةُ والاستقلالُ لم تكن شعاراتٍ ابتدَعَها الثوّارُ الفرنسيّون فجأةً، بل كانت صرخاتٍ يوميَّةً مكتومةً، تراكمَت في ضميرِ الإنسانِ الفرنسيِّ منذ اللحظةِ التي أدركَ فيها أنَّ مَن يحكمونه لا يرَونه إنساناً، ولا يُعامِلونه كإنسان.
ولهذا، فإن على كل من يديرون الدولة أن يقرأوا المقالات والروايات والصحف، لا بوصفها عنصراً تجميلياً، بل باعتبارها جزءاً من أمننا الوطني.
وكما أن الخرائط العسكرية لا تكفي وحدها لخوض المعارك، فإن إدارة الشعوب لا تنجح بالخطب والتقارير فقط، بل بإكتشاف إتجاه بوصلة المزاج العام مبكراً، وهو ما لا يلتقطه إلا الكتّاب الصادقون، لأنهم صوت الضمير الحيّ الذي يقوم بدور الإنذار المبكر، ويقود الشعوب نحو نهضة حقيقية، قبل فوات الأوان.
من يقرأ مثلاً لأمثال ألكسندر دوماس، أو لطه حسين، أو نجيب محفوظ في مصر، أو لغسان كنفاني، أو محمود درويش في فلسطين، سيعلم أن الكلمات لا تموت، وأن فكرة الحرية، حين تزرعها القصص والروايات والقصائد في صدور الناس، تتحول إلى نارٍ مستترة، لا تنطفئ إلا حين تُطفأ بعدل، أو تنفجر بثورة تُغيّر مجرى التاريخ، وتحرر الشعوب من قيود الظلم والاستبداد.
إن المقال والرواية جهازا كشفٍ مبكر لصدق الشعوب ومزاجها، وحين يخفت صوتها، وصوت الكتّاب والأدباء الحقيقيين، فانتظر لحظة الانفجار، لأن الصمت في هذه الحالة ليس رضا، بل احتقان.
وحينَ يُمنَعُ الكُتّابُ من الحُلمِ، تحلُمُ الشعوبُ بالثورةِ، وتفعَلُ من أجلِ حُلمِها المستحيل.
وفي زمن الأكاذيب، الذي تحولت فيه الكلمات إلى ديكور، نحن بحاجة إلى كُتّاب وأدباء ينهضون بالدولة والإنسان، ويعيدون صياغة العلاقة بين الكلمة والسلطة، ويذكّروننا بأن أقصر الطرق إلى هزيمتنا النفسية هو صمتنا حين تُهان حروفنا، أو تُباع أحلامنا بأبخس الأثمان.
وبلا كُتّابٍ صادقين، تذبل حقيقتنا، وتنتصر الأكاذيب، وتغدو كلماتنا مجرّد صدى فارغ لا يغيّر مسار الأحداث، وتتقهقر أمام موجات الغزو والظلم، والتبعية، والانهيار الأخلاقي، وأشكال الفساد والإفساد، فلنرفع أقلامنا إلى عنان السماء، ولنجعل من حروفنا أجهزة إنذار مبكر لا تتوقف أبداً، فالكلمة الصادقة قادرة على بناء دولة تنبض بالحياة والكرامة، وتمنع وقوع الكوارث والأزمات.
فهل ما زال بيننا من يَقرأ ليُبصر ما لا تُظهِره الشاشات؟ وهل من بين أهلِ القرارِ من يُدرِك أنَّ مقالاً واحداً قد يُنقِذ وطناً، وأنَّ روايةً قد تَحمينا من السقوط؟ وهل يُدرِكون أنَّ الكلمةَ ليستْ مجرّدَ حروفٍ تُكتَب، بل هيَ قوّةٌ تَحمي الشعوبَ، وتُغيّر مجرى التاريخ، وتبني أمماً تَصمُد في وجهِ العاصفة، أو تَنهار من الانكسار، وتَغيب عنها أصواتُ الوضوح، والصراحة، والنزاهة، والصِّدق؟
وهل هناك من يدرك أن المحافظة على وطننا تبدأ بفهمنا أولاً، لا بمجرد السيطرة على الأخبار؟ وأن حماية الأوطان لا تتحقق بإخفاء الحقيقة، بل بإشراك العقول، وإعلاء صوت الكلمة الصادقة؟ وأن الوطن لا يُحمى بالصمت وتكميم الأفواه، بل بحرية التعبير، والنقاش، والبحث عن جذور الأزمات؟
إن الكلمة التي تُقال بصدق، حتى وإن هُمّشت اليوم، ستُشرق غداً. فالتاريخ لا يُخلّد المصفقين ولا أصحاب الشعارات، بل يُخلّد من قاوم القبح بالجمال، والظلم بالعدل، والخذلان بالصوت الصادق. فالمقالات ليست مجرد معركة أو سباق لملء الصفحات، بل هي معركة على الذاكرة، ومن يربح الذاكرة يربح المستقبل والسباق.
كاتب رأي