كُتاب الرأي

حين تنطفئ النفس لتضيء من جديد

 حين تنطفئ النفس لتضيء من جديد

باسم سلامه القليطي 

يحدث أحيانا أن تستيقظ وأنت لا تشبه نفسك. لا رغبة، لا طاقة، ولا معنى واضح لما تفعل. تتأمل طريقك الذي كنت تسير فيه بحماسة الأمس فتجده باهتا، كأن النور الذي كان يملأه قد غادره بلا وداع. تلك اللحظة الموحشة التي يخفت فيها صوت الأمل، وتثقل فيها الخطى، ليست سقوطا كما تتوهم، بل هي فصل طبيعي من فصول النفس. فللنفس كما للكون فصولها، يومٌ تشرق فيه كالشمس، ويومٌ تنزوي فيه مثل غيمٍ يتهيأ للمطر.
ليس في الفتور عيب، إنما العيب أن تسيء فهمه. التعب لا يعني أنك انتهيت، بل أنك بذلت. والإنهاك لا يعني الفشل، بل أنك حاولت بصدق حتى استُنفدت قواك. أحيانا يتوقف العدّاء في منتصف السباق لا ليهرب، بل ليستجمع أنفاسه. وهكذا الإنسان، يظن أنه تراجع، بينما هو في الحقيقة يتهيأ لاندفاعة جديدة. لحظات الإدبار ليست انكسارا، بل تنبيه من الله أن تعيد ترتيب داخلك قبل أن تكمل المسير.
وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً
         تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ
حين تضيق النفس، لا تبحث عن القوة في الخارج، بل ابحث عن المعنى الذي تآكل في الداخل. فالمعنى هو الوقود الحقيقي للحياة. كم من إنسان قويّ الجسد ضعيف الروح، وكم من آخر واهن البدن، لكنه ينهض كل مرة لأن في صدره سببا أكبر منه! لذلك، أول دواء للفتور ليس أن تجهد نفسك أكثر، بل أن تذكّرها بالسبب الأول الذي جعلك تبدأ. إن الهمّ إذا ارتبط بهدفٍ نبيل صار عبادة، وإن تاه عن المعنى تحوّل إلى ثقلٍ على القلب.
قيل لابن المبارك: إلى متى تكتب العلم؟ قال رحمه الله: “لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد”.
نحن نخطئ حين نتعامل مع النفس كما لو كانت آلةً يجب أن تعمل بالكفاءة نفسها كل يوم. النفس تتقلب كما تتقلب الفصول. فمن أراد منها دوام الإشراق أنهكها. دعها تستريح قليلا، تتنفس، تتطهّر من ضجيج الأيام، ثم دعها تعود بإقبالٍ جديد. تأمل قول النبي ﷺ: «إنَّ لِكُلِّ عملٍ شِرَّةً، ولكلِّ شِرَّةٍ فَترةً، فمَن كانت فترتُه إلى سُنَّتي فقد أفلح»، فالفترة ليست خطيئة، بل ميزان يُظهر صدقك واستقامتك حين تخفت جذوة الحماس.
إذا شعرت أنك لم تعد كما كنت، فلا تزدها قسوة باللوم. الرفق بنفسك ليس ترفا، بل فقهٌ في التعامل مع الضعف الإنساني. أخبر نفسك أنك ما زلت بخير، وأن التعب لا يمحو ما زرعته من خير، بل يختبر عمقه. اجلس مع ذاتك كما يجلس الصديق مع صديقه الحزين، لا ليعاتبه بل ليحتويه. تذكّر أن السقوط لا يعيب من كان طريقه إلى القمة، وأن من عرف طعم الوهن، عرف بعده لذة النهوض.
يقول الأديب توفيق الحكيم: “لا يُوجد إنسانٌ ضعيف، ولكن يوجد إنسان يجهل في نفسه موطن القوة”.
الإدبار ليس نهاية الطريق، بل هو ظلٌّ مؤقت يعقبه إشراق. ولعل في لحظات ضعفك حكمة لا تدركها الآن، إذ يهيئك الله لأن تنهض على نحوٍ أعمق وأصدق. إن أجمل النضج ما وُلد من ألمٍ سابق، وأعذب النور ما خرج من عتمةٍ طويلة. فلا تظن أنك خسرت حين خارت قواك، بل احمد الله أنك ما زلت تشعر، لأن الشعور بالضعف يعني أن فيك حياة تبحث عن قوتها. فلعلّ هذا الإدبار يعقبه إقبالٌ من نوعٍ لم تعرفه من قبل، إقبالُ من تجاوزَ نفسه، فعرفها حقّ المعرفة.

كاتب رأي

باسم القليطي

كاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى