كُتاب الرأي

حينَ يُصبحُ العِلمُ جسدًا والخُلقُ روحُه

 

حينَ يُصبحُ العِلمُ جسدًا والخُلقُ روحُه

العِلمُ ليس حِبرًا على ورق، ولا حفظًا في الذاكرة، بل هو كائنٌ حيٌّ لا تنبضُ الحياةُ فيه إلا إذا سرت فيه روحُ الخُلقِ والعمل. فالعِلمُ بلا خُلقٍ جُثةٌ ساكنة، وبلا عملٍ هيكلٌ خاوي، لا ينهضُ بالإنسان ولا يسمو به.
لقد خُلق الإنسانُ ليعرف، لكنَّه ارتقى ليعمل بما عرف، وكلما استضاء القلبُ بنورِ العلم، وامتدت الجوارحُ لتعملَ به، تفتّحت في النفسِ أزهارُ الفضيلة، وتَطهَّرَ السلوكُ من أدرانِ الجهل والهوى.
العِلمُ بلا خُلقٍ قد يرفعُ صاحبَه ظاهرًا، لكنه يهوي به باطنًا، فكم من عالمٍ زَلَّ لسانُه فزلّت به أمّة، وكم من متعلمٍ لم ينفعه علمُه، لأنه لم يتّق الله فيما علم.
قال الإمام مالك: “ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم نورٌ يقذفه الله في القلب”، وهذا النور لا يُرى إلا إذا أضاءَ السلوك، وأثمرَ في المعاملة، وتحوّل من كلامٍ محفوظ إلى خُلقٍ معاش.
إن أشرفَ الناس من جمع بين العلمِ والعملِ والخُلق، لأن العلمَ يهدي، والعملَ يثبت، والخُلقَ يُحبِّب. فالعالمُ الذي لا يُؤثّر، ولا يُلهم، ولا يُقتدى به في سلوكه، كالسحابِ الذي لا يمطر، تملؤه السماءُ لكنه لا يُحيي الأرض.
وقد ضرب الأنبياءُ أروع الأمثلة في أن العِلمَ لا قيمةَ له إن لم يُثمر خُلقًا، ولم يتحوّل إلى عملٍ في واقع الناس. فهم مع علمهم كانوا أكثر الناس تواضعًا، وأصدقهم قولًا، وأرحمهم خَلقًا.
فيا طالبَ العلم، لا تجعل علمك ثوبًا تتجمّل به، بل اجعله لُبًّا يطهّر قلبك، وميزانًا تقومُ به نفسك، وعهدًا بينك وبين الله أن تكون ممن “يخشاه حق خشيته”، فإنما “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ”.
واجعل من خُلقك مرآةً لعلمك، فإنك حينها لا تُعلّم فحسب، بل تُلهم، ولا تُحدّث فقط، بل تُربّي وتبني وتُضيء.
حين يصبح العلم جسدًا لا روح فيه يموت،
وحين يلبسه الخُلق ينهضُ ويحيي القلوب،
فاجعل علمك جسدًا، واختر له روحًا من خُلقٍ؛ لتصعد مع الكبار لا على الأكتاف، بل على القِيَم.

بقلم: د. دخيل الله عيضه الحارثي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى