كُتاب الرأي

في ظل الميثاق الأول

 

في ظل الميثاق الأول

في أعماق الفطرة التي فُطر الناس عليها، هناك نداءٌ أزليٌّ لا يخبو صداه: “ألستُ بربكم؟”، فكانت الإجابة الخاشعة: “بلى”، ليُكتب في اللوح الأول ميثاق التوحيد، وتُزرع في أرواح البشر بذرة العهد مع الواحد الأحد. هذه البذرة، هي النور الذي يسري في الأنبياء، ويهتدي بها الصالحون، وتُجدد في كل نسك وكل تكبيرة وكل دمعة على صعيد عرفات.

محطات مع التوحيد، المحطة الأولى: الميثاق… الفطرة الأولى، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “كأننيأنظر إلى النبي وهو يحدث عن الميثاق، وكأننا كنا في صعيد واحد، وكان الله يقول لنا: ألست بربكم؟”.

الميثاق ليس حكاية عن ماضٍ بعيد، بل هو حقيقة تعيش في القلب. قال الشاعر:

وفي القلب سرٌّ لا يُقال ببيننا

ولكن صداه في الضلوع يئنّ

فطرة التوحيد هي البوصلة التي لا تضيع، وإن غمرتها ظلمات الهوى والدنيا، يظل فيها قبسٌ يتوهّج.

الحج هو المحطة الثانية والرحلة إلى منابع وجذور التوحيد، وهو ليس مجرد طواف وسعي، بل هو رجوع إلى أصل الحكاية، إلى نداء إبراهيم، ذلك الحنيف الذي قال: “إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين”، لبّى الخليل النداء، فلبى الناس بعده. قالت رياح مكة في آذان الزمان:

لَبَّيْكَ رَبِّي، والقلوبُ تضرّعُ

والدمعُ في عينيْ المُحِبِّ يُسرِّعُ

ويقول الحسن البصري: “الحج هو أن تُسافر إلى الله بقلبك قبل أن تُسافر إلى بيته بجسدك.”

وفي رمي الجمار، لا نرجم حجارة، بل نرجم ضعفنا، نرجم الرياء، نرجم الهوى. وفي كل وقوفٍ بعرفة، هناك ميلاد جديد للنفس، وكأنها تخرج من رحم الأرض إلى نور السماء.

أما سر التوحيد والمحطة الثالثة من الميثاق هو الإخلاص، سرّ التوحيد وجوهره الحقيقي،

قال الفضيل بن عياض: “أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.”

والإخلاص هو روح التوحيد، هو أن ترى في كل شيء الله، وأن تعمل كل شيء لله، وأن تترك ما سواه له.

قال أبو العتاهية:

ألا إنما التقوى هو العزّ والكرمُ

وحبُّك للدنيا هو الذلُّ والسقمُ

وليس على عبدٍ تقِيٍّ نقيصةٌ

إذا حقق الإخلاص وابتعد الندمُ

أما المحطة الرابعة، فهي حنيفية إبراهيم… الملة النقية فقد كان إبراهيم أمة، أمة وحده، بنى البيت، ورفع القواعد، وواجه الشرك بكل قلبه. قال ابن القيم:“الحنيف هو الذي استقام على طريق الحق، ولم يلتفت إلى طرق الباطل ولو كثرت.”

إنها الحنفية السمحة، التي رفضت الجمود، والوثن، والطقوس الفارغة، وآمنت بالله بلا وسيط، بلا صنم، بلا رياء.

وفي شعر إيليا أبو ماضي:

وإذا الإلهُ عطا فكلّ الخير في ما أعطيا

فارضَ الإلهَ وكن حنيفًا، لا تكن متشكّيا

ويأتي سيدنا ونبينا محمد خاتم الموحدين في محطة خاتمة، محطة أعادت الحياة للتوحيد، فجاء نصر الله والفتح، ورأى النبي عليه السلام الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسر نبينا بنجاح دعوته، والتزام أمته بالميثاق ومات قرير العين،

كان النبي يعلّم الناس كيف يكون التوحيد حياةً لا شعارًا، كيف يكون عدلًا، ورحمة، وسلامًا. في حجة الوداع، صرخ في الناس: “ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد.”كان يُرَبِّي الصحابة على التوحيد في أدقّ الأمور، حتى في نية الأكل والنوم. قال ابن عباس: “كان رسول الله يُوحِّد الله في كل حاله.”

محمدٌ في التوحيد أعظم رايةٍ

رفعتْ على الأكوان في الأكوانِ

هو ملةُ التوحيد، بلْ ترجمانها

وسبيلُنا للفوزِ والرضوانِ

أخيرا خلصت القول أن نداءُ التوحيد بين الميثاق والحج، فففي كل ميثاقٍ توحيد، وفي كل حجٍّ توحيد، وفي كل إخلاصٍ توحيد، وفي كل نفسٍ حنيف توحيد، وفي كل سنةٍ نبوية توحيد، والتوحيد ليس فكرة، بل هو حياة، وليس لحظة، بل هو رحلة تبدأ من: “ألست بربكم؟”، ولا تنتهي إلا في الفردوس عند: “رضي الله عنهم ورضوا عنه،

في ظلال التوحيد: الميثاق، الحج، الإخلاص، وحنيفية إبراهيم وهدي محمد أتى الحجاج ملبين من كل فج عميق.

فأهلا بهم في رحاب مقدساتنا آمنون ملبون، في ظل رعاية الله،ثم في ظل رعاية حكومة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، ورجال أمننا البواسل، محتسبين الأجر في خدمة حجاج بيت الله.

             بقلم د. عبدالرحمن الوعلان معد برامج تلفزيونية وكاتب

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي وخبر عاجل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى