كُتاب الرأي

حضرموت والمرآة

 حضرموت والمرآة

فيصل الكثيري 

حين تقف حضرموت أمام مرآتها، لا ترى وجها واحدا، إنما وجوها متداخلة، وجها يلوّح بالانتماء إلى يمنٍ لم يكتمل، ووجها يتطلّع إلى استقلال لم يتجسد، ووجها ثالثا ينعكس من ذاكرة ممتدة في الخليج والحجاز ونجد. وبين هذه الصور المتشابكة، ارتفعت في الآونة الأخيرة أصوات حضرمية على منصات التواصل تدعو إلى الانضمام إلى المملكة العربية السعودية، وكأنها تبحث في المرآة عن مأوى يردّ اضطراب الداخل وانقسام الخارج. غير أن المرآة لا تجامل؛ فهي تكشف أن الحماسة وحدها لا تصنع مصيرا، وأن السياسة لا تنقاد للعاطفة بقدر ما تنقاد لموازين القوى وقواعد القانون. في ميزان القانون الدولي، لا يكفي أن ترتفع الأصوات الشعبية لتنشأ وحدة بين كيانين؛ فالأمر يتطلب اعترافا متبادلا واتفاقا رسميا بين دولتين كاملتي السيادة. وهنا تبرز معضلة حضرموت، فهي ليست دولة قائمة بذاتها، لكنها إقليم داخل دولة معترف بها، يفتقد الكيان الموحد الذي يمنحه شرعية الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وفوق ذلك، فإن الداخل الحضرمي نفسه مثقل بالانقسامات والمطامع؛ نخب تتنازع الرؤى، وقبائل تتنافس على السلطة والمكانة. فكيف لمن لم يوحّد بيته أن يفاوض باسم جماعته؟ إن وحدة الداخل شرط لازم قبل أي مشروع مع الخارج، لأن من لم يعرف صوته الواحد سيظل رجع صداه متشظيا في الفضاء. ومع ذلك، فإن المرآة لا تعكس الانقسام وحده، إنما تذكر بروابط صنعتها القرون. فالهجرات الحضرمية إلى نجد والحجاز والخليج نسجت صلات نسب وعرق، وجعلت من الأسواق والمساجد والمجالس جسورا تعبرها ثقافة واحدة. هذه الروابط صنعت وعيا وجدانيا مشتركا، غير أنها لا تكفي بمفردها لصناعة قرار استراتيجي بالغ الأثر، لأن السياسة في جوهرها حساب مصالح وموازين قوى، لا اندفاع عاطفة.
إن أي حديث عن انضمام حضرموت يضع المملكة أمام معادلة دقيقة: من جهة هناك روابط الدم والتاريخ، ومن جهة أخرى هناك الجغرافيا ومقتضيات التوازن الإقليمي. وبين الحدين يبرز السؤال الأعمق: هل تملك حضرموت اليوم الشرط الأول لأي مشروع سياسي، وهو كيان موحد قادر على اتخاذ قرار جامع؟.
إن الأصوات المتناثرة في فضاء الشبكات قد تفتح نقاشا، لكنها لا ترسم مصيرا. فالمصائر لا تُحسم بالتغريدات، بل بإرادة جمعية، ونظام جامع، وصوت يعرف ما يريد. وما لم تُبنَ هذه الأركان، ستظل فكرة الانضمام مجرد رجع صدى في العالم الرقمي. ويبقى سؤال المرآة حاضرا.. هل حضرموت جزء من يمن لم يكتمل، أم إقليم يسعى إلى استقلاليته، أم ذاكرة ممتدة تبحث عن مأواها الطبيعي في نجد والحجاز والخليج؟.
إن الحديث عن مصير حضرموت هو حديث عن معنى أن تكون هناك هوية قادرة على الفعل، لا مجرد صورة تنعكس في المرآة. والسياسة في نهاية المطاف ليست سوى مرآة للهوية؛ تعكس قوتها أو ضعفها، وحدتها أو تشتتها. والسؤال المعلّق: هل تملك حضرموت اليوم كيانا قادرا على تعريف ذاته وصياغة مصيره؟.

كاتب رأي

فيصل مرعي الكثيري

أديب وكاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى