ثقة الجاهل المدمّرة

ثقة الجاهل المدمّرة
مع تقدّم الإنسان في العمر، تبدأ بعض قدراته الذهنية والعقلية في الخفوت، شأنها شأن الجسد الذي يضعف إن تُرك بلا تمرين. العقل أيضًا يحتاج إلى ما يُغذّيه ويُجدّده، ولا غذاء له أعظم من القراءة. هي الوسيلة الأصدق لتمرين الفكر، وتوسيع المدارك، وشحن الذاكرة، وصقل اللغة، وتكوين الرأي. هي التي تمنح للحياة بعدًا أعمق من الاعتياد، وتمنح للفراغ قيمة ولليوم هدفًا.
نحن نقرأ لنفهم، لنتدرّب، لنتقدم، لننضج، نقرأ لتكبر أرواحنا وتضيق جدران الجهل من حولنا. ولعل فولتير عبّر عن هذا المعنى حين سُئل: من سيقود البشرية؟ فأجاب: الذين يعرفون كيف يقرؤون. لكن في جوابه هذا عبارة لا ينبغي تجاوزها، بل التوقف عندها مليًا: “يعرفون كيف يقرؤون”. ليست القراءة في ذاتها فضيلة مطلقة، بل القراءة التي تُمارس بعقل ناقد، ووعي حيّ، وحسّ اختياري لا استهلاكي.
فقد حذّر جورج برنارد شو من نوع مختلف من القرّاء، الذين يلتهمون الكتب لا لأنهم يبحثون عن الحقيقة، بل لأنهم يطلبون تعزيزًا لما يريدون تصديقه، فيقول: “إذا قرأ الغبي الكثير من الكتب الغبية، سيتحوّل إلى غبي مزعج وخطير جدًا، لأنه سيصبح غبيًا واثقًا من نفسه، وهنا تكمن الكارثة.” ليست المشكلة في القراءة، بل في نوعيتها، وفي القارئ ذاته. فبعض الكتب لا تُنير، بل تُضل، وبعض القرّاء لا يبحثون عن الفهم، بل عن سلطةٍ وهمية يتسلّحون بها.
وهكذا، يصبح الجهل في ثياب المعرفة خطرًا مضاعفًا. فالجاهل الذي يجهل أنه جاهل، لا يُقلق كما يفعل الجاهل الذي يظن نفسه عارفًا. إن الخطر كل الخطر، حين تتحوّل المعرفة إلى قناع يلبسه الغرور، ويتحوّل القارئ إلى بوق لا عقل له، يُكرّر ويجادل ويفرض، لكنه لا يُفكّر.
في هذا العصر، تعددت وسائل المعرفة. ولم تعد الكتب وحدها مصدر التعلّم والثقافة، بل هناك وسائل مرئية وتفاعلية تجمع بين الصوت والصورة والحركة والانفعال. وهذا أمر لا يُنكر. لكن رغم كل هذه البدائل، يظل للكتاب حضوره ووهجه، ذلك الحضور الذي لا يُشبهه شيء. الكتب ليست أكوامًا من الورق الميت، إنها عقول تعيش على الأرفف، تنتظر من يُجالسها، لا من يُلقّنها أو يُحاكمها مسبقًا. وهي، كالأصدقاء، ليست كلها سواء؛ منها ما يُعلّم ويُلهم، ومنها ما يُضلّ ويُفسد، ومنها ما يُلبِس الجهلَ ثوب الحكمة.
أنا لا أقول إن عليك أن تصبح قارئًا نهمًا بين ليلة وضحاها. بل أدعوك فقط إلى المحاولة. البداية قد تكون صعبة، لكنها ككل عادة نبيلة، ما إن يُنتظم فيها المرء حتى يكتشف أنها كانت تستحق. القراءة ليست رفاهية، إنها ضرورة داخلية، حاجة أصيلة للنموّ والتجاوز والتفكّر.
اقرأ، لكن اختر. لا تقع في وهم أن كل ما يُطبع يُغذّي. ولا تركن إلى راحة الاستهلاك دون نقد أو تساؤل. فليس كل ما يُقال حقًا، ولا كل ما يُكتَب علمًا. القراءة الجيدة لا تصنعك مثقفًا فحسب، بل تصونك من الغرور المدمّر، وتجعلك تقف على أرضٍ صلبة من الوعي، بعيدًا عن الثرثرة، والشعور الخادع بالمعرفة.
فالمعرفة ليست تكديسًا، بل تمييز. والقراءة ليست غاية، بل وسيلة لصنع إنسان أكثر اتزانًا، لا أكثر ادعاءً. تلك هي المسافة الفاصلة بين من يقرأ ليكبر، ومن يقرأ ليُبهر. بين من يطلب النور، ومن يتسلّح بالظلام متوهّمًا أنه يُبصر.
كاتبة رأي