ثقافة الرحيل

تمر بنا لحظات لا يمكننا تجاهلها ، أو التغافل عنها ، أو القفز فوق حواجز النسيان ، لحظات ندرك معها كيف كنا سعداء ، كيف كنا في أمان فكري وكيف صار الحال بعد أن تذوقنا مرارة الابتعاد ، وألم الانفكاك !
يدخل إلى حياتنا البعض كنسيم الفجر، تشعر ببرودة وفوقها تكتسب صحة وطاقة بسبب استنشاق هوائه العليل في حين تكتشف بحرقة ومرار، كيف لهذا النسيم أن يختفي بعد بزوغ الشمس وانعكاس حرارتها على سطح الأرض.
قد تبدو هذه الحاجات سخيفة لدى البعض ، أقول قد تبدو سخيفة ! ويراها ثلة أنها عبارة عن توهمات لا أساس لها ولا هوية، ولكن الحقيقة أن ألم الابتعاد ليس سهلا كما يراه البعض ، ألم الفراق يشابه سكينًا تنغرز في خاصرة العلاقة ، سكينًا مسنونة تسرق العافية من البدن ، وتبعثر سكون النفس ولكن له أدبه وقانونه الذي لا يتعيّن إهماله ، بل أنه من الفرضيات أن يتم تدريسه في الجامعات ومعاهد الموسيقى ، والمسرح .
ليس سهلاً أن يبتعد الإنسان عمن أحبه ، وفي نفس الزمن يلزم أن يكون هناك رمزية للوداع، أصول وواجبات يجب اتباعها، لكي يكون الرحيلُ جميلاً، له أدب ، وله أصول .
أدب الرحيل من الثقافات التي لم يركز عليها الكثير، أدب الرحيل علامة فارقة في التربية ،أدب الرحيل منهج عند الوجدانية ، ودرس يقدمه الآخر للأول ، يحفظ فيه الود ، والمواقف، والأسرار، وأيضا علامات البهجة والسرور، أدب الرحيل أنموذجًا فريدًا لتلك الثقافة وتلك القيم التي أنشأها عهدًا، وميثاقًا مجموعة من الناس منفردين أو مجتمعين ، أدب له مواثيق وله معاهدات كالدول تمامًا تبدأ بالتوقيع وتنتهي بالالتزام بما ورد من توجيهات داخل تلك الوثيقة.
إن المتابع للمشهد الوجداني على صعيد العلاقات الاجتماعية يشاهد أن هناك نماذج عجيبة تعرف معنى البعد قبل أن تتخذ قرار الرحيل، وماهي آدابه ، وكيف له أن يكون ، تمنحك بلا مقابل مجلدات في كيفية التوديع ، تجعلك تعود لممارسة حياتك الطبيعية رغم الانكسار، أمثلة تسير على مرتكزات أدبية تتماهى في الفهم لما يجري من حولها، لها أدب يجعلك تعرف معنى المنحنى الطبيعي للحياة، أدب يؤمن بالفرح والحزن ،أدب يؤمن بأن الإنسان يمكنه الوصول إلى أعلى مستويات العلاقة الاجتماعية حتى لو كان مكسورًا من الداخل ،إنها ثقافة الاجتياز بأدب ، ثقافة الاجتياز بالأخلاق.
في الذاكرة ألف قصة ، وألف حكاية، تنطق بجماليات عاشها أشخاص لم تساعدهم ظروف الحياة على البقاء مع أحبتهم ، أو أنها لم تسعفهم على الالتقاء بهم فقدر لهم أن يفترقوا قبل أن يلتقوا ، إلا أنهم سجلوا طابعًا جميلاً في المغادرة ، انفصلوا عن بعضهم وهم في أعلى نسبة انكسار وأدنى نسبة في التوازن ، بعد قناعة تامة، بعد جهود حثيثة لإبقاء علاقتهم كما هي !! لكن الظروف حالت دون أن تستمر علاقتهم ، وفوق هذا الألم ، وذاك الوجع المكلوم ، وتلك الغصة تم الافتراق على أبهى صورة ، وأجمل منظر..
هنا نتكلم عن أدبيات خلقت بين أصبعين ولك أن تتخيل ذلك القرار الصعب ، القرار الذي لا يرغبه أو يطيقه الإنسان إذا قرر الفراق وداخله ألف سؤال جوابه يقول لا! لكنه قرر إذعانًا للظروف، وتسليمًا بالواقع، واقتناعًا بالمستحيل أنه لا بد من القبول والموافقة على الإجابة بنعم!
أقول إن الأدبيات التي يتعامل معها الإنسان في مجال التنظيم الانفعالي للمشاعر والمرتبط بالتعريف الوجداني ومحاولة السيطرة عليها، واختزال المواقف السيئة وحصرها ونبذها سوف يعاونه في أن يرى الحياة بصورة ساحرة ، ويبقي على الود مع أحبته محسنًا لهم ، أنيقًا وجذابًا معهم، أما الذاكرة فسوف يبقى منقوشًا بها أبهى الذكريات.
انتهى
علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي
كن جميلاً حتى في الرحيل.. إبداااااع حرفك لاينتهي حتى وان كان الموضوع مؤلماً تضع فيه لمسات الجمال،؛؛
الرحيل شعور مؤلم لكن كما ذكرت كاتبنا له أصول وأخلاق،، فما أجمل كلماتك التي تُلامس النفوس الصادقة،،، وتبقى مواضيعك بهية مشرقة دائماً.. زادك الله علماً وانار طريقك.
👍👍👍