كُتاب الرأي

تكريس فكرة المنقذ والمخلّص

تكريس فكرة المنقذ والمخلّص

تكريس فكرة المنقذ والمخلّص فكرة بائسة ابتكرها البعض لتعزيز أحلامه
تُعد فكرة المنقذ والمخلّص ليست بالفكرة الجديدة كما يعتقد الكثير من الناس غير أنها تكونت منذ أزمنة انطوت وانتهت، فهذه الفكرة البائسة تولد في الإنسان منذ اللحظة التي يشعر فيها بالضعف أمام أي قوة تواجهه، في الوهلة الأولى يتبادر إلى ذهنه الخوف من الموت والظلم والجهل تولد داخله الحاجة إلى أحد يخلّصه وينتزعه من براثن الألم ويقوده إلى النجاة.
بالطبع هي رموز نفسية ودينية واجتماعية لا تنفك تلازم الإنسان، في العصور والحضارات القديمة كان الإنسان فيه كلما رأى شيئًا كبيرًا أو ملفتًا للنظر اتجه إليه يطلب تخليصه من الجمود والكسل والخوف ويطلب منه أن يبعث فيه الرجاء والأمل وينقذه من مخالب التغول الفكري والعدمية وتخليصه من خوف المجهول.
في الأديان تكرست صورة المخلّص في شخصيات تنتظرها البشرية لتعيد التوازن للعالم وانقاذها من الخطيئة كالمهدي المنتظر وفي الاجتماع تبرز الهشاشة الاجتماعية في تصور أن يظهر زعيم ينقذ المجتمع من الفقر أو الاحتلال أو الانحراف هذا كله تبرير الهدف منه منح الطمأنينة للجماعة في مواجهة الخوف من الفوضى أي أنها تعويض رمزي عن فقدان السيطرة وتوسيع دائرة الاتكالية للهروب من الفشل أو القهر؛ أما في علم النفس يرى فرويد أن هذه الفكرة ترتبط بالحاجة إلى الأب خاصة لما يشعر فيها الفرد أو الجماعة بالضعف والهوان أما يونغ يرى أن ذلك يفسر في العقل الجمعي على أنه الأمل في التحول أو التجديد لكن هذا سوف يضعف التفكير العقلاني ويولّد التبعية ويهمش المسؤولية الفردية وقد يؤدي إلى خيبات كبرى عند سقوط الظاهرة المنقذة أو المخلّص كما يحلو للبعض تسميتها.
إن تكريس فكرة المنقذ يُغذي الاتكالية ويكرّس العجز الجمعي(الوهم المريح). فبدلاً من أن يُنظر إلى التغيير على أنه عملية جماعية ومسؤولية مشتركة، تتحوّل الأنظار إلى شخصٍ خارق الصفات، يُنتظر قدومه لتغيير كل شيء بخطوة واحدة. هذا الوهم يمنح الأفراد شعورًا زائفًا بالراحة، لكنه في الحقيقة يعمّق مشاعر الخنوع ويؤجل الفعل.
ليست الفكرة إلا مرآة للخوف الجمعي من العجز، وتوقًا داخليًا للتعلّق بما هو أكبر من الواقع، وهروبًا من مسؤولية المواجهة.
فالمخلّص في الوعي الجمعي هو من يتحمّل عبء التاريخ نيابةً عن الناس، وهو الذي يُحاسب بدلاً من المجتمعات، ويصلح ما أفسدته القرون بقرار فوري.
وهنا تكمن الخطورة، فحين يتحوّل الحلم بالخلاص إلى انتظار أبدي، يتبدل الإنسان من فاعل إلى مُتفرّج، ومن مقاوم إلى عابد للوهم.
اعلم رحمك الله أنه منذ فجر التاريخ، ارتبطت الحضارات والأساطير والدين والسياسة بفكرة “المنقذ” أو “المخلّص” الذي سيقدم ليضع حدًّا للمعاناة، ويصحح الانحراف، ويحقق العدالة المفقودة. قد يبدو هذا الحلم جميلاً وباعثاً على الأمل، لكنه في جوهره يُعدُّ من أكثر الأفكار بؤسًا وخطورة على وعي الإنسان وتقدمه، وهروبًا من المسؤولية.
كما أنه حين تُربّى الأجيال على أن الخلاص مرهون بقدوم شخص ما ـ سواء أكان زعيمًا، أو قائدًا، أو حتى شخصية غيبية ـ فإنها تُعوِّد نفسها على انتظار الحلول من الخارج. فيصبح الإصلاح مؤجلاً، والعمل غير ذي جدوى، والنقد محصورًا في دائرة ضيّقة، بحجة أن التغيير (سوف يطل) على يد المنقذ.
ما تحتاجه المجتمعات فعلاً ليس مُخلّصًا؛ إنما نهضة وعي. نحتاج إلى إنسان يؤمن بدوره، ويشعر بمسؤوليته، ويعلم أن التغيير لا يبدأ إلا حين يتحرك العقل قبل الجسد، وحين يُستبدل الانتظار بالفعل، والتواكل بالمبادرة؛ فالمجتمعات التي تصنع أبطالها بنفسها، لا تحتاج إلى منقذ، كونها ببساطة تتحول إلى مخلّص جماعي.
آخر قول في الكلام:
الشجرة تحتاج جذورًا قوية، وتربة صالحة وهواءً نقيًّا، وشمسًا تلامسها؛ فالماء وحده لا يكفي، ولو كان يكفي لما ماتت أشجار في أرض غمرها المطر، كذلك الإنسان، لا يلزمه شخص حتى ينقذه؛ بيد أنه يحتاج بيئة كاملة للنمو، وتربة فكرية خصبة، وضوء من الوعي، وهامش من الحرية.
من يرى الماء منقذًا للشجرة، هو نفسه من ينتظر مخلّصًا يأتي من بعيد متناسيًا أن الشجرة تنمو حين تقاوم الجفاف، وتغوص جذورها عميقًا لتبحث عن الحياة بنفسها.
فمن ظنّ أن المخلّص سيقدم، وأن قطرة من وعوده كفيلة بإصلاح الخراب هو كمن ظن أن الماء وحده يُنبت الغابة.
صديقي القارئ المجتمعات لا تُروى بالماء وحده لكنها تحتاج وعيًا كثيفًا كشمس الصيف،
وحرية كالهواء ، ومسؤولية كجذرٍ لا يسأل من أين يأتي المطر.
المنقذ الحقيقي هو القوة التي تدفعك للوقوف، هو الجذر الذي يصمُد، لا السحابة التي تعبر.
علينا أن نفهم أن منظومة الوعي، وسيادة القانون، وتهيئة الجو المناسب للكرامة، والنظر للمستقبل بإدراك تام، والجد في العمل والمقاومة للكسل كلها تمثل الإنقاذ والمخلّص للإنسان من قبضة وشراك العجز الإرادي.
هكذا خلص المقال وبهذه الصورة انتهت الفكرة.

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي وإعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى