خواطر

تقاسيم التوق..

أحمد السالم الشنقيطي

للهِ الليلُ ما يصنعُ بك..
قلتُ: ويحك يابنَ فقيه المدينة، لا يخفى على مثلك السلوى التي يجدها العاشق في جوفِ الليل، عندما يحادثُ النجوم، ويترنّم البدرُ أمامه بتراتيل الغرام، ويقصُّ عليه قصص من سبقه من العاشقين..نعم لله الليلُ وما يحويه، ولشرُّ الليلِ عندي أحب من خير النهار.

قال: تالله إما قد أذاب عقلَك الليلُ، أو مسّك هوىً من الشيطان يابن مُقرئ المدينة..إن سلوى المكلوم عشقًا منزهةً عن الزمان والمكان، فإن كان ممنوعَ الوصلِ أو مقطوعه فتسلوه الذكرى، ولو في وقتِ الكَرى..هيَ الذكرى يا أحمد لا شيء سواها يسلو به العاشق.

قلت: إنها الذكرى نعم، ولكن لا تكون سلوى الذكرى صادقةً إذا ما ولجتِ الخلَد بعدما ترتدي السماء ثوبها الأسود، وتتحلى بحليّ النجومِ والكواكب، هل سمعتَ تقاسيم التوق؟

قال: أَحبُّ الثياب إليَّ ما نصُعَ بياضه، وأحبُّ الحُليّ ما فَقُعَ صفاره..الليلُ سباتٌ..والنهارُ معاشٌ وسلوى..أي توق؟

قلت: أما هذا فرأيك، ولا أحمِلُ الناس على ما أرى بالسوط كصاحبك..ما أُريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد..التوق إلى بسمة.

قال: ألم تجد إلا هذا تصحّبه لي..أما نسيتَ بسمة؟
قلت: بلى، حمارُ سورةِ الجمعة أراكما متشابهان..كيف ينسى المرءُ جرحًا لم يلتئم؟

قال: ويلكَ! إنما هذا جرحٌ أنتَ من أبى أن يلتئم، تُقلِّبُه بذكراك وتُوقده بأنينك في جوف الليل. كيف تكون عاشقًا لجرحك أكثر من عشقك لمن جرحك؟

قلت: وما العجبُ في هذا؟ أليس الجرحُ علةَ قطع الوصل؟ إن الجراحَ تغدو لوحاتٍ نرسمها في ظلام الليل، أو نغماتٍ نعزفها الوصل سكرةٌ عابرة، والجرح بقاءٌ لا يفنى.

قال: بل أنتَ أسيرُ هوىً فاسد، ترهقُ نفسك بملاحقةِ الأوهام.. أن في التسليم شفاء وفي الرضا نجاة..كما الشقاءَ يكون في مقاومةِ القدر، وفي الغوصِ في ذكرياتٍ لا تعود.

قلت: وإن يكن؟ أليس الإنسانُ خُلق ليناقض قدره؟ أليس بقدرته أن يُحيي الموتى في خياله؟ الذكرى هي الجسر الذي لا ينقطع، وطريقٌ لا نهاية له.. أما الرضا، فهو موتٌ بطيء لأحلامِ العاشقين.

قال: الموت بطيءٌ عند من أبى أن يعيشه، ومن عاشَ ليتعذّب..أما عندي، فالليلُ للصلاة، والنهارُ للعمل، والذكرى زادٌ للعقل لا سمٌ للقلب.

قلت: أما أنا، فلا صلاةَ لي إلا في محرابِ الذكرى، ولا عملَ لي إلا بين أضلعِ الليل.

قال: إنما أنتَ رهينُ الليل، وأنا حرٌّ في النهار..فلا تنتظر مني أن أُسجَى بظلماتِ سجنك، ولا أنتظر منك أن ترى النورَ الذي أراه.

قلت: ونحن هكذا بين ليلي ونهارك، تبقى قلوبنا معلقةً بخيوطٍ لا تتمزق..
الفجرُ عندي نهايةُ الحلم، وبدايةُ الكدح.. لا أطلب الفجرَ كما تطلبه أنت. أبحث في الليلِ عن المساحات التي لا تُرى في ضوء الشمس، عن اللحظات التي تذوب فيها الحدود بين الذات والعالم..الليلُ هو تلك النقطة التي تنصهرُ فيها كل الأشياء، فلا يبقى إلا الوجود في صورته الخالصة.

قال: إن كان الوجودُ في الليل كما تزعم، فما هي الغاية؟ أفي تذكرِ بسمة تجد المعنى؟

قلت: الغاية؟ لا غايةَ لي إلا البحث عن علة حب بسمة.. الليلُ ليس محطةً نهائية، ولكنه طريقٌ نحو المجهول، نحو ما يتجاوز الحواس والعقل. أما أنت، فيبدو أنك استسلمتَ ليقين النهار، لكن اليقينَ لا يصنع فلسفة، بل يقتلها.

قال: بل الفلسفةُ تبدأ حيث يبدأ الفجر، وحيث تنتهي الأسئلة العابثة التي لا جواب لها.. الليلُ عندك جحيمُ الشكوك، أما النهارُ فهو سماءُ المعرفة.

قلت: الفلسفة تبدأ حيث ينتهي الليل؟ بل تبدأ حين نحترقُ كما تحترقُ سيجارةٌ في يد عاشقٍ يائس، لا يبحث عن إجابة، بل عن لحظةِ احتراقٍ أخرى. هل رأيتَ كيف يذوب التبغُ في نارِ السيجارة، وكيف يتصاعدُ دخانه إلى السماء؟ الحبُ كذلك، لا يُفضي إلى يقين، بل إلى رمادٍ ودخانٍ. إنه احتراقٌ مستمرّ، لا يعلمُ العاشقُ متى ينتهي، لكنه يستمرُّ في إشعال سيجارةٍ بعد أخرى، تمامًا كما يستمرُّ في الحلم رغم معرفته بالخيبة.

قال: سيجارة؟ أما وجدتَ تشبيهًا أبلغَ من هذا؟ السيجارةُ تقتل صاحبها ببطء، والحبُ إن كان كذلك، فما حاجتنا إليه؟ أتحبُّ أن تحترق؟

قلت: الحبُ والسيجارة كيانٌ واحد. كلاهما يبدأ بنارٍ صغيرة، ينطفئ بعد أن يستنفد ما فيه من مادة. نحن نحبُّ كما ندخّن، نعلم أن النهايةَ محتمة، لكننا مع ذلك نتوقُ إلى كل نفس، إلى كل لحظة احتراق. وفي النهاية، لا يبقى سوى الرماد، والذكرى التي تذوبُ كما يذوب دخان السيجارة في هواء الليل. الحبُ يا صديقي ليس خُلودًا، بل هو سيجارةُ الوجود، نُشعلها لأننا نحتاج أن نحترق، نحتاج أن نشعر بتلك اللحظة التي يتلاشى فيها كل شيء.

قال: ولكن ماذا عن العشق الذي لا يحترق، الذي لا يتلاشى؟

قلت: العشقُ الذي لا يحترق هو كذبة.. كل حبٍ حقيقيٍّ ينتهي بالاحتراق..والذين يبحثون عن حبٍ لا يفنى، لا يعرفون أن الجمالَ في الفناء، في تلك اللحظة التي تُدرك فيها أن الحبَّ، كلذة السيجارة، لا يُمسك ولا تدرك لذته حتى ينتهي..اسمع تقاسيم التوق يا مروان، ففيها خلاصة عشقي.

كاتب

احمد السالم الجكني

أديب وكاتب رأي وقاص سعودي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى