كُتاب الرأي

تأدب في حضرة الجرح

سلطان عيد المرشدي

تأدب في حضرة الجرح

يوم آخر يتجول بين فكرة الغرق في هذه الدنيا، وبين الأحداث التي تحاول سحبنا إلى أكبر قدر ممكن من العمق، فإن طفوّنا فوق سطحه فقد يكشِفُنا للملأ، وبقاؤنا في القيعان يقطع أنفاسُنا الممتلئة بالهلع، وبين هذا وذاك تمر مجريات الحياة التي تهوِن عليك بتقدير العظيم العزيز.
وهُنا في حقيقة هذا اليوم، أستمع لهاتفي الذي بدأ بالصراخ، أو عفوًا كما صح القول “بالرنين” في أول خيوط الصباح الباكر والتي أغلب من يتذكرك فيها أحدٌ مضطر أو مكلوم يبحث عن وجهة، وكثيرًا ما ينتابني الخوف والقلق وعدم الارتياح من صوت هاتفي في هذا التوقيت تحديدًا، فثمة علاقة بيني وبين الأخبار المؤلمة لا أعلم ماهو سبب حدوث هذا ولكن واقع الحال يثبت صحة هذا التوقع ودائمًا ما أردد مباشرة دون وعي أو شعور اللهم سلم سلم.
كنت في ذلك اليوم مسافرًا في بقعة من بقاع هذه الأرض الرحبة، وحينها وردني اتصال في الساعة السابعة صباحًا من أحد الأصدقاء، وكما هي التوقعات لعموم الدافع لاتصاله، فقد أراد أن يُخبرني بوفاة والد زميلنا أحمد وهو أحد الزملاء في العمل، آلمني ما سمعت وتوقفت عن كل شيء لحظة سماعي لهذا الخبر فقد كان أحمد صديق مقرب جدًا، ووالده بمثابة الأب لي ومرت ذاكرتي التي تحتفظ بمواقفنا معه فكم ذهبنا بصحبته للتنزه والاستجمام، كان رجلاً فاضلاً كريمًا بشوشًا يملأ نفسك بالسعة والرحابة كلما رأيته وتبادلت الحديث معه.
حاولت حينها كثيرًا أن أدرك أداء الصلاة عليه قبل دفنه ولكن لم تكتب لي ولم أستطيع الحضور الأخير إليه، وعند عودتي في اليوم التالي أتصلت على ابنه أحمد كيّ أسأل عن موقع العزاء وكان في استراحة لا تبعد عن منزله إلا مسافة تُطوى سريعًا وقد تم استئجارُها لاستقبال المعزين في وفاة والده، وعند وصولي ركنت سيارتي جانبًا وهممت بالدخول وحينها تلحفني شعور أذكره جيدًا حتى أن جوارحي جُلها تفز مرتعدةً بحضوره، فقد أعادتني الذاكرة إلى حزن لم يبرأ بالرغم من تكرار محاولة جعله يشفى إلا أن بعض الجراح تبقى قاطنة بداخلك وتبني لها بيوتًا رطبة لتعود كأول مرة عند المواقف التي تشبهها، وقد شهدت ذات الموقف حين استقبلنا المعزين في دارنا عند وفاة أقرب الناس لنا، ولم يكن أنسنا إلا ما كان يخفف عنا شعور المصاب في تلك الأيام بعد الله، في وقفات الأقارب والأصحاب أيام العزاء فتارةً يربطون على قلوبنا بأن المتوفى في معية الله وهو أرحم به منا، وتارة أخرى يذكروننا بعظيم الأجر وأن تلك الأرواح التي غادرتنا قد سبقتنا إلى الجنة إن شاء الله، وكانت تلك الكلمات مثل البلسم الذي ينتشلنا من شتات التفكير إلى الواقع، وأن الحياة ليست دار قرار ولن يُخلد فيها أحد، ومن هول المصاب إلى السكينة والهدوء والطمأنينة.
أستقبلني أحمد وأخوته وأقرباؤهم لأنفض أفكاري عند سماع أصواتهم، وأقدم واجب العزاء لهم في فقيدهم، متثاقل الخطوات أثناء تقديم العزاء وكأن مشاعري تحولت إلى مباني في داخل صدري، فكنت أخطو خطوة للأمام وأعود بها ألف خطوة إلى الوراء، ورائحة الموت التي تملأ المكان قد تسللت إلى أنفاسي والحزن قد خيم على سماء أحمد وأخوته.
دائمًا ما يُرعبنا خبر الوفاة وفكرة الفقد التي تزعزع قوائم أحباؤنا، وهي مشاعر كل مؤمن يُدرك أن هذا الطريق ماضٍ علينا أجمعين، وأنهُ مقبل على ربه فإن أحسن فهنيئًا له بوعد الله الحق، وإن أساء فويلٌ له بما قدم ليومٍ تحسب فيه الموازين ويجزى فيه العباد، وغالبًا ما نكون مطأطئي الرأس مواساةً ومراعاة لمشاعر أهل الميت لدموعهم المكلومة وحزنهم الذي ودوا لو أنه كابوسًا شارف على الانتهاء.
لم أكن أنوي البقاء طويلاً بعد تقديم العزاء ولكن أخذ أحمد بيدي وأجبرني على الجلوس بجانبه وتحدثت معه مواسيًا له من شعورٍ مسبق لكنني لم أجده إلا صابرًا محتسبًا وهنيئًا ما قدم لوالده منذ اليوم الأول من فترة مرضه حتى وفاته، فكان نعم الابن البار الملازم لأبيه في سفره إلى رحلته العلاجية خارج المملكة، نظرت إلى ساعتي فإذا بها تُشير إلى العاشرة والنصف مساءً، أستأذنت حينها من الجميع للعودة إلى منزلي.
لكن غرابة الأمور في بعض المواقف تأبى إلا أن تلفت انتباهك، وعندما هممت إلى الخروج لفتني مجموعة من الشباب قد اجتمعوا في مكان منزوي من الاستراحة للعب لعبتهم المفضلة – البلوت – وكأنهم قد انفصلوا عن واقعهم الذي يعيشونه حاليًا وابتعدو عن عالمهم، أو كأنما شيئا لم يحدث، وقد هالني ما رأيت وأغمضت عيني علّي متخبط المشاعر وأرى ما لا يُرى ثم قمت بفركها لعله يكون حلم أو أنه غشي على بصري، فإذا بهم حقيقة لا تزييف في الموقف ولا وهم هل بالفعل يلعبون البلوت وقد عج مكانهم بالحديث وشغلهم الحماس عن مراعاة ألم أهل الميت وكأنما الموت الحقيقي قلوبهم التي لا يعقلون بها؟ هل ران على قلوبهم؟ أين هم من تذكر الآخرة والوعظ بالموت الذي ينبعث مع كل جنازة نضعها في قبرها؟
ألا يحمل المرء في داخله بضع المشاعر التي تحركه وتأبى أن يستخف بشعور سواه، وموقف من هم من لُحمته أو شعورهم بالفقد وكأنما يتراقصون على الأحزان ضاحكين بعلو الصوت، نظر لي حينها أحمد واستشف من ملامح وجهي ونظرات عيني التي تأبى التصديق إستغرابي وإستنكاري لما يقومون به من ترفيه في يوم مملوء بحزن العزاء، لم يستطع أن يتفوه بكلمة واحدة لأنهم أقاربه وأتوا من كل مكان ولكنهم لم يراعوا نزف فقدهم وكأن واجب الحضور كانوا مرغمين عليه لا أكثر، في حين أنه كان عليهم التأدب في حضرة الجرح.
حزنت حزنًا لا يعلم به إلا الله لما رأيت من مشهد ليس مكانه وزمانه، وما حل في ضمائر بعضهم وموت الرهبة حتى من أشد موقف ألا وهو الموت، هنا ركبت سيارتي وتوجهت إلى منزلي وأثناء السير في طريق عودتي تبادر لي هذا السؤال، ألم تعد قلوبنا تحمل الخوف من الموت؟ أليس الواجب علينا احترام المكان والزمان ومراعاة الناس ومشاعرهم؟ هل اختلطت المقالات بكل مقام ولم يعد لهُ مقالهُ الأنسب؟
وبعد مدة جمعتني إحدى المناسبات السعيدة بأحد أولئك الذين انشغلوا بلعبة البلوت في يوم عزاء والد صديقنا أحمد فلم أفوت الفرصة وأثناء حديثي معه ذكرت له الموقف وأنه لايزال عالقًا في ذهني، فقام بتبرير فعلته بعذر أقبح من ذنبه، وقال: “رغبنا في الابتعاد عن الحزن فمنذ أن علمنا بوفاته ونحن محزونون فلعلنا احتجنا لتغيير الأجواء الممتلئة بالوجوه المكتئبة” قلت له: “في مآسي الآخرين وانكسارهم إياك أن تبتسم تأدب في حضرة الجرح أو مُت وأنت تحاول”، ففي جراح الآخرين لا نأتي لجرفها بضحكاتنا المُعلنة والتي لسان حالها “لتضيق عليكم الحلقة أكثر وتنزف جراحكم دون توقف” في حين أنهُ قد يتم تقطيبها بمواساة الأحبة، أو تركها لتلتئم بالتأدب.

كاتب رأي ومؤلف

سلطان عيد المرشدي

صحفي ، مؤلف ، كاتب رأي ، عضو هيئة الصحفيين السعوديين ، عضو الجمعية السعودية للارشاد النفسي بجامعة الاميرة نورة ، مرخص من الهيئة العامة لتنظيم الإعلام ، وثيقة عمل حر كاتب وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ، صدر للمؤلف كتابين آصِرة وغرفة ١٧ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى