بيوتنا أصبحت كتابًا مفتوحًا

بيوتنا أصبحت كتابًا مفتوحًا
في زمنٍ تتسابق فيه الأصابع نحو كاميرات الهواتف قبل أن تستوعب العقول ما يحدث، باتت البيوت – التي كانت يومًا حرمًا آمنًا وسرًّا مصونًا – صفحاتٍ مبعثرة في كتابٍ يُقرأ على الملأ، بلا استئذان، وبلا وعي بعواقب هذا الانكشاف.
لقد انقلب مفهوم الخصوصية في عصر “المشاركة المفرطة”، فالمائدة التي كانت تجمع أفراد العائلة بهدوء، أصبحت مسرحًا تُعرض فيه الأطباق قبل أن تُؤكل، والغرفة التي كانت ملاذًا للراحة تحولت إلى استوديو للتباهي بالأثاث والذوق والثراء، بل حتى لحظات الحزن أو الفرح الحميمية صارت مشاهد يُنتظر الإعجاب بها أكثر من الشعور بها.
ما الذي يدفع الناس إلى تحويل بيوتهم إلى كتابٍ مفتوح؟ أهو حب الظهور؟ أم هو ضغط المقارنة الاجتماعية؟ أم أن ثمة فراغًا داخليًا يُراد ملؤه بالتصفيق الخارجي؟ إن هذه الظاهرة – التي تبدو بسيطة أو ترفيهية في ظاهرها – تخفي وراءها مشكلات نفسية واجتماعية عميقة، أبرزها فقدان الإحساس بالخصوصية، واضطراب الهوية، وخلق بيئة لا ترحم، يُقاس فيها الإنسان بما ينشر لا بما يكنُّ في قلبه.
لم تعد البيوت محاطة بالجدران فقط، بل غزتها العدسات، فصار لكل ركنٍ فيها قصة منشورة، ولكل حدثٍ صغير قصة مصورة، حتى الطفل بات ضيفًا دائمًا في مقاطع الوالدين، يُضحك الناس بلعثمته، ويؤنس المتابعين بغفلته، دون أن يُسأل عن رضاه أو يُراعى مستقبله.
وهنا يكمن الخطر الأعظم, حين تُصبح حياتنا اليومية مشاعًا، فإننا نفقد السيطرة على سرد قصتنا. الصور التي نعتقد أننا نتحكم بها قد تُستخدم ضدنا، أو تُسيء إلينا، أو تخلق تصورات زائفة عنّا. والمقلق أكثر، أننا نغفل عن تربية الأبناء على مفهوم “الستر”، حين نشجعهم على التوثيق الدائم لكل لحظة، بدلاً من أن نغرس فيهم معنى أن يكون للبيت سره، وللحياة خصوصيتها، وللنفس حرمتها.
إن الاحتفاظ بجمال الخصوصية ليس رجعية، بل وعي، وهو تعبير راقٍ عن احترام الذات والغير. ليس كل جميل يُقال، ولا كل ما نملك يجب أن يُعرض، ولا كل ما نشعر به يجب أن يُنشر. فالقلب الذي يحتفظ ببعض أسراره، والبيت الذي يحتفظ ببعض صمته، أكثر أناقة من بيتٍ يُنتهك في كل لحظة بصوت الكاميرا
ختامًا…دعونا نغلق صفحات هذا “الكتاب المفتوح”، ونعود لنعيش حياةً فيها شيء من الصمت، من التأمل، من الخصوصية. دعوا لبيوتكم أسرارها، ولقلوبكم هدوءها، وللحظاتكم الحقيقية أن تُعاش لا أن تُعرض. فالستر زينة، والخصوصية نعمة، والحياة أجمل حين لا تُهدر في سوق الظهور.
🖋️…د.دخيل الله عيضه الحارثي
مقال جميل جداً استمر يامبدع 👍