كُتاب الرأي

بين “لاغيني ولاتعشيني” وحساسية المبدع ومأزق الناقد

بين “لاغيني ولا تعشيني” وحساسية المبدع ومأزق الناقد

د. سارة الأزوري

قد تبدأ الحكاية من كلمة عابرة على طاولة قهوة، كلمة تحمل دفئًا يذيب جليد اللحظة أو تترك شرخًا لا يلتئم. في الحياة اليومية، لا بأس أن تفيض المجاملات، فهي أحيانًا أثمن من الطعام والضيافة. لكنها حين تنتقل إلى فضاء الأدب والإبداع، تتغيّر قيمتها. هنا، تصبح الكلمة أثقل من أي هدية، لأن أثرها يمتد إلى نصوص قد تُخلّد أو تُنسى. فهل تصلح المجاملة لتكون بديلاً عن الحقيقة؟ وهل يمكن للنص أن ينضج وهو يترعرع في حضن الطبطبة؟

إن النصوص الأدبية، مثل المعادن النفيسة، لا تتشكّل بجمالها الطبيعي فقط، بل تحتاج إلى طرقٍ وصقلٍ حتى يسطع بريقها. النقد، مهما بدا قاسيًا، هو المطرقة التي تعطي النص شكله الأجمل، بينما الطبطبة لا تُنتج سوى شكل أولي هشّ. غير أن الإشكال يكمن في الكيفية التي يتلقّى بها المبدع هذا النقد. فهناك من يرى في كل ملاحظة غيرة مبطّنة أو حسدًا خفيًا، وكأن الناقد عدوّ يتربّص به لا رفيق يسعى لتقوية نصّه. وهكذا ينقلب النقد من أداة تطوير إلى شرارة خصومة، إذ يعيش المبدع غالبًا على حافة هشاشة داخلية، ويعتبر نصّه امتدادًا لذاته، وحين يُنتقد النص يشعر أن ذاته هي التي تتلقى الطعنات. من هنا تنشأ حساسية مفرطة، تجعل بعضهم يفضلون سماع المديح مهما كان زائفًا على مواجهة الحقيقة مهما كانت نافعة.

وفي الجهة الأخرى، يقف الناقد أمام مأزق لا يقل قسوة. إن اختار الصراحة، فإنه يخاطر بخسارة الصداقة وربما تحوّل إلى خصم مكروه، وإن اختار الصمت، فإنه يترك النصوص تغرق في بحر المجاملات، فلا يقدّم لها ما تحتاجه من مواجهة. وهكذا يجد نفسه على حبل مشدود، يحاول أن يوازن بين صدق الكلمة وحساسية المبدع. وغالبًا ما يدفع ثمن نزاهته في شكل خصومات لم يكن ينوي إشعالها، فتتحول كلماته إلى وقودٍ للعداوة بدل أن تكون جسورًا للتطوير.

والحل لا يكمن في الصمت المطلق ولا في المواجهة الحادة، بل في صياغة النقد بحكمة. أن يُقال النص لا صاحبه، وأن تُعرض الملاحظات في شكل اقتراحات أو احتمالات، لا أحكام نهائية. كما يمكن للناقد أن يختار توقيتًا مناسبًا، لأن الكلمة في غير وقتها قد تصبح أكثر إيلامًا من معناها. أما المبدع فيحتاج هو الآخر إلى تدريب داخلي على تقبّل النقد، والتفريق بين ما يقال للنص وما يقال له شخصيًا، فالنصوص ليست أبناءً يُحتمى بها بغيرة عاطفية، بل أعمال مستقلة تحتاج إلى من يضعها على محك التجربة.

ومع ذلك، قد تأتي لحظات يكون فيها الصمت أرحم، خاصة حين يكون النقد بابًا لخصومات لا جدوى منها. ليس كل نص يستحق الدخول في معركة من أجله، ولا كل مبدع مهيأ لسماع الحقيقة. غير أن هذا الصمت لا يجب أن يتحول إلى قاعدة دائمة، وإلا ستبقى الساحة رهينة للأدب الهشّ الذي يعيش على المديح الزائف. فالنقد، مهما كان مزعجًا، هو الذي يحمي النصوص من الذبول.

هكذا تبقى الكلمة في مفترق طرق: بين دفء المجاملة وبرودة النقد. والأدب، في النهاية، يحتاج إلى الاثنين معًا: كلمة طيبة تحفظ الودّ، وكلمة صادقة تحمي النص. أن نلغي النقد بحجة الخوف من الخسائر يعني أن ندفن الإبداع تحت ركام المجاملات، وأن نستبدل الحقيقة بالراحة الزائفة. ولتكن الكلمة إذن مثل السكين الحاذقة: قد تجرح، لكنها تفتح الطريق أمام الشكل الأجمل. أما المجاملة، فحين تُقال، فلتكن من باب المودة لا من باب التواطؤ على ضعف النص. عندها فقط يمكننا أن نوازن بين “لاغيني ولاتعشيني” في حياتنا، وبين النقد الصادق الذي يرفع النصوص إلى ما تستحقه من مقام.

كاتبة رأي

 

 

الدكتورة سارة الأزوري

أديبة وشاعرة وقاصة وكاتبة رأي سعودية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى