بين سحر الذكرى ووطأة الحنين

شاهدت وأنا أشاهد اليوم فيديو حفل يوم زواجي قبل أربعين سنة، يخفي خلف ستار الفرح الظاهر، حقيقة مرة عن مرور الزمن وتقلب أحوالنا، فبينما أشاهد وجوه الأصدقاء والزملاء المبتسمة والضحكات الرنانة، تباغتني ذكرى من رحلوا عن هذه الدنيا، ومن غادروا حياتي رغم بقائهم على قيد الحياة، أدركت حينها أن ماضي ليس مجرد صور باهتة، بل هو عالم نابض بالحياة، يسكنه أشخاصا تركوا بصماتهم على قلبي، لكن أقدارهم تفرقت عن طريقي.
يمتلك الماضي سحرا غريبا، فهو حصن ذكرياتنا، وملاذنا الآمن عندما نشعر بالضياع في زحام الحاضر، على عكس الحاضر الذي يمر سريعا كلمح البصر، والمستقبل الذي يكتنفه الغموض، يتيح لنا الماضي فرصة لإعادة تجربة اللحظات الجميلة، والتأمل في دروس الماضي علنا نتجنب أخطاءه.
الشاعر مرسي جميل عزيز رحمه الله عبر عن شوقنا للماضي ببراعة في أغنية سيدة الغناء العربي السيدة أم كلثوم رحمها الله في (فات الميعاد)، حين تمنى عودة الزمن بكل ما فيه من براءة ونقاء، متسائلا: (وعايزنا نرجع زي زمان! قول للزمان ارجع يا زمان، وهات لي قلب لا داب، ولا حب، ولا أنجرح، ولا شاف حرمان)، يجسد هذا التساؤل، والشجن الفريد الذي أبدعته باحترافية متناهية ريشة الملحن العبقري بليغ حمدي رحمه الله، رغبتنا في الهروب من آلام الحاضر إلى حضن الماضي الدافئ، وإن كان يعد ذلك ضربا من ضروب المستحيل والخيال.
على الرغم من سحر الماضي، إلا أن عودته الحقيقية قد تتحول إلى كابوس يطاردنا في يقظتنا، تخيل أن تستيقظ من نومك، وتجد نفسك في زمن مختلف تماما عن حاضرك اليوم، غريب عليك بأشخاصه، وعاداته، وثقافته، كما حدث مع أهل الكهف في مسرحية توفيق الحكيم، إنها فكرة مرعبة فعلا أن نقتلع من جذورنا، وَنُرْمَى في عالم لا ندرك قوانينه.
إن الماضي سيف ذو حدين، فبينما هو ينعش ذاكرتنا، ويثري حاضرنا، قد يصبح عبئا ثقيلا يعيق تقدمنا نحو المستقبل، لذلك، ينبغي لنا أن ندرك أن الماضي مجرد مرحلة، وانتهت، وأن الحياة رحلة مستمرة يجب أن نعيشها بكل ما فيها من أفراح وأحزان.
صحيح أن للماضي سحرا يأسرنا، لكنه يبقى مجرد ذكريات، ولا يمكننا أن نعيش فيه مرة أخرى، لذا، يجب أن ندرك أن الحنين المفرط إلى الماضي، قد يصبح عبئا يعيق تقدمنا نحو المستقبل، فلنحتفظ بذكرياتنا الجميلة كمصدر إلهام، ولنتعلم من أخطائنا السابقة لنصبح أفضل في المستقبل.
إن العودة إلى الماضي، حتى لو كانت ممكنة، قد لا تكون حلا سحريا لمشاكلنا الحالية، فلكل زمن ظروفه وتحدياته، وما كان يناسب ماضينا قد لا يجدي نفعا في حاضرنا، تخيل معي أنك عدت إلى (زمن الطيبين) بكل ما فيه من بساطة، ألا تحن إلى منجزات عصرنا الحديث من تقنية وسائل راحة؟
مسرحية “أهل الكهف” للفيلسوف المصري العظيم الراحل توفيق الحكيم- رحمه الله- جسدت هذه الفكرة ببراعة، فالشخصيات التي استيقظت بعد سبات طويل، وجدت نفسها في زمن مختلف تماما، مما أدى إلى صراعات نفسية واجتماعية عميقة، فقد صور لنا بهذه المسرحية صور مجازية عن خطورة التعلق بالماضي، وعدم القدرة على التأقلم مع متغيرات الحاضر.
إن الحياة رحلة مستمرة تتدفق نحو المستقبل، وليس معنى ذلك أن نلغي الماضي تماما من حياتنا، بل يجب أن نستفيد من دروسه وتجاربه لنصبح أكثر حكمة وقوة ونضجا، وندرك أن السعادة الحقيقية تكمن في التوازن بين تمسكنا بأصالتنا، وانفتاحنا على كل جديد، وبين استفادتنا من تجارب ماضينا، وبين بناء مستقبلنا الواعد.
لا شك أن للماضي مكانة خاصة في قلوبنا نحن أبناء الجيل الذهبي، جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات، فهو جزء لا يتجزأ من هويتنا وتاريخنا الشخصي، لكن، هل يعني هذا أن نبقى حبيسي ذكرياته، عاجزين عن المضي قدما إلى الأمام؟
إن الماضي بالنسبة لنا بمثابة بوصلة ترشدنا في مسيرة حياتنا فقط، نستلهم منه الدروس، ونستمد منه القوة، لكنه ليس المحطة النهائية لرحلتنا.
إن التجارب الإنسانية هي في حقيقتها سلسلة متصلة من الإخفاقات والنجاحات، وكل مرحلة فيها تشكل لبنة في بناء شخصياتنا وتصوراتنا، لذا، فإن الاستفادة الحقيقية من الماضي تكمن في تحويل تجاربه، سواء كانت إيجابية أو سلبية، إلى دروس نستخلصها، ونوظفها في صنع حاضرنا ومستقبلنا.
ولعل الأدب والفنون قد أجادا تجسيد هذه الفكرة في مختلف العصور، فكمْ من قصة ورواية وسعت مداركنا حول طبيعة الزمن، وأثره على الإنسان، فالجمود الفكري والتشبث بأفكار عفا عليها الزمن يعيقان نمونا، وتطورنا كأفراد، ومجتمعات، وعلينا أن ندرك أن العالم من حولنا في تغير مستمر، وأن التكيف مع هذه التغيرات هو سبيلنا الوحيد للبقاء أحياء على قيد الحياة، ومواكبة التطور والتقدم، فلنطلق العنان لطاقاتنا، وإمكاناتنا، ولنتطلع إلى المستقبل بعين تنظر إلى الأمام، مستفيدين من دروس الماضي، ومستلهمين منها العزيمة، والإرادة، والتصميم.
فبين الأمس الذي شَكَلْنَا، وشكل شخصياتنا، والغد الذي نصبو إليه، تمتد رحلة حياتنا الحافلة بالأفكار والمنجزات والفرص، ولنكن على يقين أن قدرتنا على صنع مستقبل مشرق لنا ﻭ لأجيالنا القادمة يكمن في توازننا بين الاعتزاز بتراثنا القديم، وانفتاحنا على آفاق جديدة من التجارب، والتفكير.
محمد الفريدي
الأستاذ محمد، دائما يبهرنا بمواضيعه، شخصيًا استغرقت في هذا الموضوع، لأنني كغالبية البشر أشعر بحنين مستمر للماضي، واشيائه، وكغيري أتلذذ باستدعاءه وبما فيه من تحولات بما في ذلك التعب، وهذا يؤكد مقولة، أن (لا تعب غير تعب التفريط في العبادة)، أما غيره يتحول إلى ذكريات ومادة دسمة للتداول مع الاصدقاء، وأن بعض التعب والمشكلات التي عانيناها فيه، تتحول إلى مادة للضحك. شكرًا أ. محمد على مواضيعك المثرية.
أستاذنا الجليل، وشاعرنا الكبير، أبو فهد
كمْ أسعدني مرورك الكريم، وكلماتك العطرة التي غمرتني بها، وحروفك هذه اعتبرها وساما على صدري، ودافع لي لبذل المزيد.
وأشكرك جزيل الشكر على مشاركتك القيمة بخصوص موضوع الحنين للماضي، فكلامك حقيقي، نحن جميعا ننجذب لتلك الذكريات، ونستمد منها طاقة عجيبة، فما أجمل أن نتذكر الماضي ونبتسم، ونستخلص من تجاربه دروسا تنير لنا طريق المستقبل.
وشكرا كذلك علي ملاحظتك الدقيقة عن التعب، فكم هي صحيحة مقولة “لا تعب غير تعب التفريط في العبادة”، فالتعب الحقيقي هو ما يثقل كواهلنا في الآخرة، أما تعب الدنيا فسرعان ما يتلاشى تاركا خلفه ذكريات وعبر.
دمت بخير أستاذي الكريم، ودام عطاؤك، وأتطلع دوما لقراءة حروفك والاستفادة من حكمك ﻭ تعليقك.
وتقبل تحياتي.
أخوكم
محمد الفريدي
ولقد ساند القرآن الكريم أهمية هذا المنحى في التذكر لبناء الوعي واكتساب الخبرة من التاريخ فقال :
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
مما يعني أن التذكر واسترجاع الماضي والقيام بعمليات فرز وانتقاء مما يبني أنجح أساليب بناء الحاضر بروح ابتكارية متطورة تقود إلى مستقبل إنساني أفضل..
مقال مهم ينضم إلى سلسلة مقالاتك المهمة كاتبنا المهم الكبير الأستاذ محمد الفريدي .
طبتم وسعدتم دوماً وبورك في قلمك.
الدكتور الفاضل هشام محفوظ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أشكركم جزيل الشكر على تعقيبكم الكريم والمفعم بالمعاني العميقة حول مقالي الأخير ، و استشهادكم بالآية الكريمة “وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” يعكس فهماً عميقاً لأهمية التذكر في بناء الوعي واكتساب الخبرة من التاريخ.
كما تفضلتم بالقول، إن عملية التذكر واسترجاع الماضي والقيام بعمليات الفرز والانتقاء تشكل أساساً قوياً لبناء الحاضر بروح مبتكرة متطورة، و يمهد الطريق نحو مستقبل إنساني أفضل ، هذه الرؤية التي اشرت اليه تتفق تماماً مع ما حاولت إبرازه في مقالي.
لقد أسعدني كثيراً أن هذا المقال قد انضم ايضاً إلى سلسلة المقالات التي وجدتموها مهمة في مسيرتي الأدبيةً، و كلماتكم الطيبة وتقديركم لقلمي يحفزني على الاستمرار في تقديم الأفضل.
أسأل الله أن يبارك في علمكم وقلمكم، وأن يوفقنا جميعاً لما فيه الخير والفائدة لمجتمعاتنا و دولنا و امتنا ، و تقبل تحياتي.
اخوكم
محمد الفريدي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما شاء الله تبارك الله
أستاذنا الفاضل العزيز
وكاتبنا الصحافي الأديب
أبا سلطان
هذه قطعة أدبية بديعة فيها
التصوير النفسي العميق
لمرحلتي الماضي العريق
والحاضر النفيس .
واصل هذا العطاء الجميل
واترك هذا القلم السيّال
يكتب ويغرس ما يشاء
من الكتابات النثرية النفيسة .
إلى الأمام دائما وابدا…
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أديبنا الكبير أبو عبدالرحمن.
كلماتكم الطيبة غمرتني بالسعادة والامتنان ، أشكركم من أعماق قلبي على هذه الإشادة الجميلة الغير مستغربة من قامة يشار إليها بالبنان .
مرة أخرى، شكراً لكم على دعمكم وتشجيعكم المستمر، و دمتم بخير وسعادة وعافية .
أخوكم
أبو سلطان