كُتاب الرأي
بين المكافأة والكنز: جدلية القيمة في نظرة الآخر

بين المكافأة والكنز: جدلية القيمة في نظرة الآخر
في العلاقات الاجتماعية كثيرًا ما تتحدد مكانتك لا بما تحمله من جوهر، إنما بالطريقة التي يراك بها الآخر.
هذا الشيء يمتد لمساحة أوسع فيشمل العلاقات الإنسانية، بعضهم يتعامل معك مجرد مكافأة؛ حضورك عنده مشروط بظرف، ومرتبط بحاجة، يختفي أثره بانتهاء اللحظة. فيما حقيقتك قد تكون أعمق من ذلك بكثير.
بالطبع لو ركزنا قليلاً على أصل العلاقة يتضح لنا أنه في جوهرها تكمن مفارقة حادة! أقول تكمن مفارقة حادة من زاوية: هل يُرى الإنسان لذاته، أم لما يمنحه من منفعة؟ هنا يتحدد الفارق بين من يعتبرك مجرد مكافأة عابرة، ومن يدرك أنك كنز باقٍ. وهذه المفارقة ليست مجرد وصف للعلاقة، لكنها انعكاس لنظام قيم كامل يحكم رؤية الإنسان للآخر.
لو أخذناها من زوايا ذات رؤية أوسع يمكن أن تكون المكافأة في جوهرها شكل من أشكال التقدير المؤقت، لكنها ليست اعترافًا حقيقيًا بالذات، غير أنها اعتراف مشروط بفاعلية آنية. إنها تجسيد لفلسفة المنفعة التي تختزل الكائن في كونه أداة: ما دمت تنفعني فأنت حاضر، وإن انتهى نفعك انتهت قيمتك. للأسف هنا علاقة استهلاك مُقنّع بلغة التقدير. بالتأكيد يتضح النقد: فالآخر حين يراك مكافأة، فهو في الحقيقة يحكم على وجودك وفق معيار خارجي لا يعكس أصالتك، بيد أنه يعكس حاجاته الضيقة.
المكافأة بطبيعتها سريعة، وآنية، تُمنح عند تحقق نتيجة. إذن هي انعكاس لمعادلة بسيطة: جهد يقابله جزاء. لهذا من يراك مكافأة يحدد قيمتك بما تنجزه له الآن، ويختزلك في وظيفة محدودة. وجودك بالنسبة له وظيفي أكثر من كونه إنسانيًا، وهو بذلك يحكم على عمقك بسطحية ظرفية.
أما الكنز فهو معدن متعالي على الشرط. لا يمنح قيمته بقدر ما تُمنح له، لكنه يفرضها بحضوره. الكنز لا يُستهلك ولا يُستبدل، لأنه ليس ارتداد لحاجة، بقدر ماهو أصلٌ في ذاته. هو ذاك العمق الذي يكشف عن طبقاته مع الزمن، ويزداد إشراقًا كلما طالت محاولة اكتشافه. فمن يراك كنزًا لا ينظر إليك بمنطق المنفعة، إنما بمقتضى الاعتراف بماهيتك، أي باعتبارك وجودًا يتجاوز حدود الاستعمال.
في هذا الحال يعتبر هو المعنى المتجاوز للشروط. لا يحتاج إلى مناسبة كي يُثبت وجوده، كلما اقتربت منه اكتشفت طبقات جديدة من قيمته. الكنز ثابت في أصله وليس جائزة تُستهلك، إنه أثرٌ يُصان، وجوهر يزداد رسوخًا مع مرور الوقت. من يراك كنزًا لا يتأمل إلى ما تقدمه في لحظة، يتصفح إلى ما تمثله في الكل: أصالة، ثم ندرة، فاستمرارية.
هل تعلم أن المعضلة الكبرى في مجتمعات اليوم أنّ نسق المكافآت صار يحكم كثيرًا من التفاعلات: في العمل وأيضا في الصداقة، وحتى في الحب. نبحث عن الفائدة السريعة، وننسى أن هناك ذواتًا تحمل قيمة لا تُقاس بلحظة نفع. وهذا الخلل في الوعي يجعل الناس يخطئون التقدير؛ فيتركون كنوزًا لا تُقدّر بثمن، وينشغلون بجوائز مؤقتة سرعان ما تفقد قيمتها.
النقد هنا ليس للآخر فحسب، هو نقد للنظام القيمي الذي يختزل الإنسان في قدرته على الإشباع اللحظي. فحين يغيب الوعي بالعمق، تغيب القدرة على التمييز بين الكنز الحقيقي والزخرف العابر.
الغريب أن كثيرًا من الناس يخطئون التقدير، فيمزجون بين المكافأة والكنز. فيختزلون ذواتٍ عميقة في أدوار سطحية، ويفقدون بذلك وعيهم بأثمن ما حولهم.
هذه النظرة الاستهلاكية تجعل العلاقات قصيرة العمر، لأنها تُبنى على النفع الوقتي لا على الاعتراف بالقيمة الجوهرية. والنتيجة أن الكنز قد يُهمل لأنه لا يلمع بالسرعة التي يتوقعونها، بينما هو في الحقيقة أثمن مما يتصورون.
أضف عليه أن الوعي الجمعي بات أسيرًا لمنطق المكافآت. حتى العلاقات الأكثر حميمية أُصيبت بهذا الداء؛ الصداقة تتحول إلى عقد تبادل مصالح، والحب يتحول إلى صفقة عاطفية. في هذا السياق يُخطئ كثيرون في التقدير، فيتركون كنوزًا نادرة لأنهم لم يروا بريقها الساكن، وينشغلون بمكافآت عابرة تخفت سريعًا.
النقد هنا مزدوج: للوعي السطحي الذي يقيس الجوهر بمعايير سطحية، وللنظام القيمي الذي يربط الإنسان بقدرته على الإشباع اللحظي.
إن الفارق بين الكنز والمنحة يعكس سؤالاً فلسفيًا أعمق: هل ننظر إلى الإنسان باعتباره جوهرًا قائمًا، أم باعتباره أداة لحاجاتنا؟
إذا كانت النظرة الأولى هي التي تسود، فالعلاقات تُبنى على الاحترام والاعتراف، حيث القيمة ذاتية. أما إذا سيطرت النظرة الثانية، فالعلاقات تتحول إلى سوق: من يعطي أكثر يستحق البقاء، ومن يتوقف عن العطاء يُستبدل. إنها رؤية تنقل الإنسان من دائرة الوجود إلى دائرة الاستهلاك
الفارق بين أن تُرى كمكافأة أو تشابه الكنز يكشف مستوى وعي الآخر وليس حقيقتك أنت! ينبغي أن تدرك هذا جيدًا.
إن إدراك الفارق بين الكنز والجائزة ليس اغتناءً فكريًا، بقدر ما هو وعي وجودي يحفظ الإنسان من أن يُستهلك في سوق العلاقات.
المسألة هنا ليست في حقيقة الإنسان بقدر ما هي في زاوية النظر إليه. هناك من يراك في حدود العودة، أي هبة عابرة يقتنصها ليُرضي لحظة أو يُشبع حاجة؛ وهناك من يتجاوز السطح ليدرك اللب، فيراك كنزًا تتجذر قيمته فيما هو أبعد من الشرط واللحظة. وهكذا يصبح الفرق بين الكنز والمكافأة مرآة لفهم عميق عن كيفية تعامل الوعي الإنساني مع الآخر.
الكنز يُكتشف ويُصان، والمكافأة تُستهلك وتُستبدل. وبين من يراك بهذا أو ذاك يظهر حقيقة العلاقة وحدودها. والحكمة من ذلك أن تعي قيمتك الحقيقية، وألا تسمح للآخر أن يختزلك فيما لست عليه. فبعض الرؤى لا تنتقص من ذاتك، لكنها تكشف ضيق أفق من يراك.
اعلم وفقك الله أن الكنز والمكافأة ليسا مجرد صورتين متقابلتين، الحقيقة هما اختبار للرؤية: من يرى بالعين يكتفي بالمكافأة، ومن يرى بالبصيرة يدرك الكنز. إن أخطأ الآخر في تقديرك فذلك لا ينقص من ماهيتك، لكنه يكشف عن ضيق أفقه.
آخر الكلام
القول الآكد من كل هذا : أن يعرف الشخص نفسه أولاً ويؤمن بها، فيعي أنه ليس مكافأة تُمنح وتُستهلك، ينبغي أن يتعلم أن يكون كنزًا يحتفظ بقيمته حتى لو أعرضت عنه العيون، وأن يدرك قيمته فما لا يراه الآخر فيك لا ينفي وجوده عنك، إنما يكشف محدودية نظرته.