بلاغة الاسم وسرّ الزحام: تأملات في قوله تعالى: (ببكة)

بلاغة الاسم وسرّ الزحام: تأملات في قوله تعالى: (ببكة)
الألفاظ في القرآن الكريم لا تأتي اعتباطًا، بل تُصاغ بميزانٍ دقيق، تتناغم فيه الدلالة اللغوية مع الظلال الشعورية، وتتماهى فيه الصورة الذهنية مع السياق الموضوعي، ومن هذا كان ورود اسم “بَكَّة” في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96]، مثيرًا للتأمل: لماذا “بكّة” وليست “مكّة”؟ وهل وراء هذا اللفظ المختلف سرٌّ بلاغيٌّ ودلالي؟
ذكر أهل اللغة أن “بَكَّ” في أصل العربية يدل على الدفع والزحام، ومنه قولهم: “تَبَاكَّ القومُ” أي ازدحموا، و”بَكَّه” إذا دفعه بشدة. وجاء في لسان العرب: «بَكَّ: دفع. وبَكَّ القومُ بعضهم بعضًا: ازدحموا، وسُميت بكة بهذا لأن الناس يَتبكّون فيها أي يزدحمون». وقال الزمخشري في الكشاف: «سُمّيت بكّة لازدحام الناس فيها، يقال: بَكَّه يبكه بَكًّا إذا دفعه وزحمه». وهذا المعنى يتناغم تمامًا مع سياق الحج والطواف حول البيت، حيث المشهد الأعظم للزحام المشروع والعبادة الجماعية.
وقد اختلف العلماء في الفرق بين “بكّة” و”مكّة”. فذهب جمهورهم إلى أن بكّة ومكّة اسمان لمسمى واحد، غير أن لكل اسم مقامًا يُذكر فيه، وقال مجاهد والضحاك وغيرهما: “بكّة” هي الموضع الذي فيه الكعبة فقط، و”مكّة” اسم يشمل البلد الحرام بأكمله.،وذهب آخرون إلى أن “بكّة” جاءت في سياق الآية لأنها تُصوّر حال الحجيج والزحام حول البيت، على خلاف “مكّة” التي تستخدم في المواضع العامة. وقال الفخر الرازي في التفسير الكبير: «اختُصَّ هذا الموضع باسم “بكّة” لأن الناس يتبكّون فيه، أي يتزاحمون، ولأن الزحام أشد ما يكون عند الكعبة».
ولم يأتِ اسم “بكّة” في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع الوحيد، وهو موضع الحديث عن أول بيت وُضع للناس وارتباطه بالعبادة والحج، وهذا التفرّد يدل على قصدية بلاغية، فاللفظ يحمل في طيّاته صورة شعورية حيّة: كأنك ترى الحجيج يطوفون، الأكتاف تتلامس، الدموع تسيل، الألسن تلهج، والأقدام تتدافع في خشوعٍ وهيبة، وهذا يُجسّد جوهر الحج: الاجتماع، والانصهار في الطاعة، والانكسار بين يدي الله في موضع واحد. فلفظة “بكّة” ليست مجرد اسم، بل رسمٌ بلاغي لصورة الطواف والازدحام، تجعلك تعيش المشهد وأنت تقرأ الحروف.
حين تتأمل اختيار القرآن للفظة “بكّة” في هذا الموضع الوحيد، تدرك أن القرآن لا يكتفي بالإخبار، بل يصوّر ويُشعر ويُحيي المعاني.
إنه لا يقدّم ألفاظًا جامدة، بل ينقش مشاهد حية في القلوب، “بكّة” هي موضع الاجتماع، والانكسار، والدفع إلى الله من كل فج، وهي اللفظة الوحيدة التي تستطيع أن تصف هذ المشهد.
🖋️… د. دخيل الله عيضه الحارثي
الشكر لك، بارك الله فيك…
ألف شكر دكتور دخيل الله
معلومة قيمة .
جزاك الله خيرا