كُتاب الرأي
امرأة بمئة
امرأة بمئة
قد تمرّ في حياتك امرأة لا ترفع صوتها في المجالس، ولا تملأ حضورها بالحديث، غير أنّها تترك في نفسك أثرا لا يُمحى. وجودها يشبه النسمة التي لا تُرى، غير أنّها تُصلح مزاج المكان وتسكب فيه طمأنينة لا تُوصف. في بدايات معرفتك بها، تظنّ أن حضورها عادي، ثمّ تكتشف أنّ اتزانك النفسي كان يستمدّ سكينته من هدوئها، وأنّ فوضاك كانت تهدأ كلّما اقتربت منك. ولأن في بعض النساء سرّ الاتزان، تراهنّ يُجدن إصلاح ما اختل في الناس دون أن يرفعن شعارا، ويمنحن العطاء دون انتظار مقابل. فالعظمة في جوهرها لا تقوم على الصخب ولا على شهرة، ولكن على فعل صامت يترك في القلوب أثره الجميل. تلك هي المرأة التي تُعيد توازن بيتٍ بكلمة، وتُرمّم تعب الحياة بابتسامة، وتزرع في كل زاوية من يومها شيئا من الرحمة والعقل. في كل بيت امرأة كهذه، لا طائل من الإكثار في الحديث عن فضلها، لأنّ فضلها يُقاس بالسكينة التي تبثّها لا بالكلمات التي تُقال عنها. تُعطي من وقتها ما لا يُحصى، وتُصلح ما انكسر في الآخرين بلمسة من وعي عميق. وحين تشتدّ العواصف وتضطرب الموازين، تبقى هي الثابتة كجذرٍ عتيقٍ في أرضٍ عاصفة، تُمسك أطراف البيت بالكلمة الطيبة، وتُشعل الأمل حين يوشك أن يخبو.
وحين تأتي ساعة الخطر، يتراجع كثير من الرجال، وتخرجُ نساءٌ بصدور مفتوحة نحو الصعاب. تراها تواجه البلاء بصبر لا يضطرب، وشجاعة لا تصرخ، حتى إذا اشتدّ الأمر قالت في يقينٍ هادئ: ((أنـــا لها)). عندئذ يفهم من يراها أن الشجاعة ليست في الصوت المرتفع، إنما في الثبات ساعة الاضطراب، وفي الإقدام حين يتردّد الآخرون. وإذا أُعطيت المرأة الفرصة في التعليم ورزقت الفهم، غدت نابغة، لأن العقل الذي يُروى بالعلم يثمر وعيا لا يُحدّ. غير أنّ كثيرا من المجتمعات الذكورية ما تزال تخاف من هذا النبوغ وتتحسّس منه، كأنّ المعرفة تُنقص من رجولتهم ولا تزيد في إنسانيتهم. ولو علموا أنّ الأمم لا تنهض إلا بعقل المرأة إلى جوار الرجل، لبدّلوا خوفهم احتراما، وجهلهم تبجيلا.
طالما كتب التاريخ أسماء الملوك، غير أنّه نسي من شيّدن بيوتا قائمة على الصبر والخلق، وربّين الأجيال على الحكمة والمروءة. المرأة العظيمة لا ترفع صوتها على الأيام، لكنها تُهذّب الأيام بصمتها، وتعلّم من حولها أنّ اللين ضرب من ضروب القوة، وأنّ الرفق بابٌ يفتح على النبل.
قد تصمت حين يثور الآخرون، وتسامح حين يعجز غيرها عن الصفح، وتنصت لما لا يُقال لأنّ قلبها أوسع من اللحظة، وأرحب من الصخب. هي عقل راجح لا تُغريه الانفعالات، ونفس تعطي من عمقها دون رياء، وخلق يُضيء حين تخفت الأضواء … هكذا، يفهم الناس في نهاية المطاف أن بعض النساء يُقمن ميزان الحياة دون أن يشعر به أحد، وأنّ وراء كل بيت متماسك امرأة تحمل في قلبها مئة موقف من النبل، ومئة لحظة من الصبر، ومئة درس في الإنسانية.
هي امرأة بمئة، لا تُرى في صدارة المجالس، ولكنها في صدارة الوجدان.. تقيم حياة وتهذب أياما، وتترك خلفها أثرا لا يُمحى في القلوب.
