كُتاب الرأي

الى جنة الفردوس يا صاحبي

سعد سعيد الحارثي

 

الى جنة الفردوس يا صاحبي

فُجعتُ كما فُجعت أم القرى وجامعتها العريقة ومنسوبوها ورواد وفرسان الساحة الأدبية السعودية والعربية والرموز الفكرية بوجه عام، كما فُجعت قبيلة بني الحارث عامة وقبيلة اليزيد على وجه الخصوص برحيل الأديب الأريب وعالم اللغة والبلاغة المتميز والناقد الخبير والشاعر المبدع ورجل القبيلة الذي يشار إلية بالبنان، الأستاذ الدكتور/ محمد بن مريسي بن سعد الحارثي الذي وافاه القدر يوم الثلاثاء الموافق 15 شعبان 1446هـ.

وأمام هذا الجلل العظيم وهذه الصدمة المؤلمة وفي غمرة اختلاط المشاعر وتوارد الأفكار ماذا عساي أن أكتب عن صاحبي. هل اكتب عن سمو أخلاقه الرفيعة وجزيل عطائه؟ أم عن رجاحة عقلة وحكمته وسداد رائية؟ أم عن قدراته العلمية ونتاجه الفكري؟ أم عن مكانته البارزة في ساحة الثقافة وعلى منابر التنوير؟ وجدتُ أن من المناسب لي أمام مواكب الانجاز للرجل الراحل التي تراود الاذهان ونحن والاجيال من بعدنا نقف أجلالاً واحتراماً وتعظيماً،

أن اتناول الجانب الإنساني البشري عند محمد بن مريسي الحارثي وهو جانب مليءٌ بالحب والوفاء والطيب وحسن الخلق، أيماناً مني أن بقية الجوانب الأخرى سيكفيني ان تعرض لها الكثير من زملائه وطلابهومحبيه من رموز الأدب والفكر في الساحة الثقافية تحدثوا وسيتحدثون عن جوانب إنجازاته في التعليم الجامعي وعن نتاجه الفكري ومؤلفاته الكثيرة وتتبع مسيرته المشرقة في جامعاتنا السعودية والجامعات العربية وهو بما كتب عنه جدير لأن أعماله تتحدث عنه.

كانت بيني وبينه علاقة حميمية فريدة ربطتني به وربما كانت من أسباب اقترابه مني واقترابي منه. فهو من أخوالي فوالدتي ابنة عمه وهو صاحبي بالجنب وزميلي بالدراسة قطعنا مرحلة الدراسة الابتدائية معاً في مدرسة الصور بني الحارث والتحقنا بمدرسة دار التوحيد ذائعة الصيت بالطائف. ثم انتقلنا الى الجامعة في قسم اللغة العربية بكلية الشريعة فرع جامعة الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة. وبعد أن تخرجنا من الجامعة التحقنا بالعمل الوظيفي بالطائف المأنوس في مدرسة واحدة (المثنى بن حارثة المتوسطة) نعلم مادة اللغة العربية وطيلة هذه المراحل لا نفترق أنس به وهو كذلك. ونقضي معظم الوقت معا أكثر مما نقضيه مع غيرنا وكأني بأبي مشهور قد وجد ضالته في شخصي وأنا وجدت فيه ضالتي. فأنا محمد ومحمد أنا. ليس من باب تواؤم الأرواح وإنما من باب الروح الواحدة.

وعلاقة محمد بي وعلاقتي به تفوق التعبير ويعجز عن وصفها القلم “فرب أخ لك لم تلده أمك”. وأن عجز قلمي عن البوح فبحر مشاعري تجاه محمد بحرٌ بلا حدود. وأني عندما أكتب عنه فأني أكتب عنه كما عرفته على المحك وخبرته بالمعايشة والتجربة. شرفت بصحبته اللصيقة في أشرف مهنة مهنة التعليم في مدينة الطائف، عشنا مرحلة عملية فيها زهوها ولها رياضها داخلنا منها شعورٌ بالرضا والرضا التام سعدت معه بالمشاركة في رسالة الحياة نطوع من خلالها منظومة المعرفة من مناهجها الصافية العذبة لبناء عقول تواقة الى نور اليقين وقلوب يعمرها الإيمان وإرادات شابة نظرة تتحفز لبناء وطنٌ مكانه سويداء الافئدة.

واذا كانت الشهادة امانة فإن الرجل في كل المحطات التي عشناها معا كان وفياً مخلصاً صادقاً صدوقاً يؤمن بعمله ومنتمي إليه وعى مسؤولياته وأخلص لها وادرك واجبه وتفانا من أجله وكان بارزاً بين الزملاء تجده دائما مع ضميره في توازنٌ وانسجام يتجرد من هوا النفس وخصوصيات الذات في سبيل أداء الواجب لا يستدعي الأضواء بل يقدح زنده ليضيء به لمن حوله.

رغبنا معاً مواصلة الدراسة العليا وعقدنا العزم على مواصلة التحصيل العلمي العالي وتهيئت الأسباب جميعها سوا التفرغ لي لمواصلة التعليم وقف عائقاً دون رغبتي فمضى كل منا في طريق جديد دون الأخر ألتحق محمد بالدراسات العليا بجامعة أم القرى وحصل على درجة الماجستير والدكتوراة وأنا تمت ترقيتي من معلم لمساعد مدير عام التعليم بالباحة وجمعت بين العلم والإدارة وحصلت على درجة الماجستير. وعلى الرغم من البعد بين مقري عملينا الا كأننا نعيش في مدينة واحدة على اتصال دائم وأن تباعدت الاجسام لان علاقة الأرواح التي لا تعرف الانقطاع موثقة، لارتكازها على الحب في الله.

صاحبي محمد بدوي المنبت حضري النشأة يراوح بين قيم منبته وخلفية نشأته مراوحة من يحسن قطف اطيب الثمار من أحسن الشجر. كان “يرحمه الله” نموذجاً مثاليًا حيًا لتوافق الاصالة مع المعاصرة في شخصية واحدة لا مفارقة تؤخذ عليها بل تكامل وانسجام واعتدال وانعكاس ذلك على رؤيته وادائه الحياتي ملموس وملحوظ. محمد مكتسب إباء العربي النبيل يترفع عن الزلل ويتسامى عن الصغائر والترهات ومن له أب مثل أبية وأسرة مثل أسرته ذات الأرومة المجيدة فقد انعقدت له دواعي الشرف والفخر ومع أن محمد “رحمه الله” ترسم معطيات أصوله الا ان له في ذاته شرف العصامية يضيف بها الى نفسه شرفاً الى شرف. ومما لا يجدر اغفاله عن هذا الرجل نجاحه الباهر في ميدان الثقافة وساحة الادب والتعليم الجامعي والاشراف على الرسائل العلمية ومناقشتها والبحث العلمي والتأليف حريص كل الحرص على التعامل مع مسؤوليات بموضوعية وتجرد واحترام فهو في المقياس ناجح، وقد أسعفه ليتبوأ النجاح وينال الثقة سعة افقة، وصواب رائية، ونضوج فكره، فوق كل هذا فالرجل متصالحٌ مع نفسه أقصى درجات التسامح على وفاق معها وذلك عنوان الرضا عن النفس في رجل لا يرضى الا بما يرضاه له ضميره الحي ودواخله النظيفة.

فالأنصاف يقتضي أسناد الشرف لمن هو أهل له، لكنني أحسب أن استحضار النماذج الصالحة بالذكر والاشادة بهم هو من قبيل استحقاقات الصلاح ذاتها في معرض التقديم لها من خلال نماذجها للاقتداء.

وأمام ألم الفراق فأن مظاهره الوجدانية لاستشفاع ما يقابله من شعور بأن له حضور دائماً في دواخلي العامرة بصدق الوفاء تجاه من له مع الوفاء نسبٌ وخال ويقيني من واقع تجربتي اللصيقة به أنه سلسبيل يتجدد نبعه الصافي الرقراق، ومن عذوبته يستمد النثر والشعر نمائهما المزدهر متعملقةٌ بحجم محمد وجهده الوثاب وهمته العالية. تشمخ المعرفة بقدر شموخه. سيكون محمد دائم التواجد في ذاكرتي وسأكون دائم الدعاء له بالرحمة.

أحسب أنني في مهرجان الضوء الوهاج الذي ينبعث ساطعاً من ذهن عالم اللغة والاديب الاريب والشاعر المبدع والناقد الخبير والباحث العاقل المتوازن والرجل الانسان، واحد من أولئك الذين تلمسوا مسالك كثيرة من الحياة واستفادوا من عطائه وتجربته الناجحة.

وهبه الله أبناء عاشوا في مدرسته واستمدوا منه حب المعرفة علمًا وفكرًا ومكانة فأصبحوا علامة فارقة وبارزةفي محيطهم ومجتمعهم وسوف يحمل مشهور واخوانه الراية من بعده.

يعذرني “أل مليفي” الاسرة العريقة إن لم تسعفني اللحظة للتوفيق بين الكلمة وما تحمل من دلالات … إن ذلك لا يعني أرتباك الاستدلال لكنه ارتباك الأدوات في إيجاد العبارة والأسلوب التي تكفي لترجمتها برؤية ووضوح. فالمشاعر لوحة فنية في دواخلنا تعجز عن تأطيرها لغة الشعر ودقة النثر … كما تعجز عن رصدها لوحة فنان ولو اجتهد.

أن حصل عندي قصور في ذكر ما يجب عن صاحبي فأن كرم الله واسع وفضله واحسانه سبحانه وتعالى هو الأرجى في مكافاته ورفع درجته عنده.

أسال الله القدير أن يجزيه خير الجزاء على ما قدم وأن يجعل كل ما قدمه من خير في موازين حسناته وأن يرزقه قطف زهور جناته ويسقيه من حوض نبيه ويسكنه دارًا تضيء بنور وجهه الكريم.

أديب وتربوي ومساعد مدير عام التعليم بمنطقة مكة المكرمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى