الوطن ليس مركز أعلاف

عندما نفكر في مفهوم الوطن، قد يتبادر لنا للوهلة الأولى أنه المكان الذي نعيش فيه، ولكن في الواقع هو أعمق من ذلك بكثير.
الوطن ليس مجرد مساحة جغرافية ومكان ننتمي إليه بالولادة أو الاختيار، بل هو محور للهوية والانتماء والمسؤولية.
الوطن ليس مركز أعلاف يجترها المفسدون متى أرادوا دون وعي أو تفكير، ولا مكان للجهلة والأغبياء الذين لا يرونه إلا للنهب والاستغلال والثراء.
الوطن، في جوهره، معقل للعدالة والمساواة، وليس معلفا للأغبياء والذين لا هم لهم إلا تحقيق مصالحهم الشخصية بالحرام، وبناء مستقبل أبنائهم على حسابه وحساب مواطنيه دون أن يخافوا من الله أو يؤنبهم ضمير، وترويج أفكارهم المسمومة التي تعمل على تفكيك نسيجه الاجتماعي بديلا عن رعايته واحتضانه بعد أن صاروا من أصحاب القرار.
الوطن الحقيقي يتطلب من مواطنيه اليقظة والمشاركة الواعية، فلا ينبغي أن نكون فيه مجرد قطعان لا ننتمي إليه إلا حين نحتاج إليه.
الوطنية الحقة تعني الحرص على صون الحقوق والحريات الأساسية لكل فرد، والعمل على تعزيز الشفافية والمساءلة، وتحصين المجتمع من الأفكار السامة والمغرضة، ومواجهة الجهل والتلاعب بالعقول بالمعرفة والتعليم التي تسهم مباشرة في تحقيق أهداف دولتنا، والتركيز على نقد الأفكار وتحليلها، وليس فقط تلقيننا المعلومات لنرددها بلا فهم في المناسبات كالببغاوات.
وتؤدي وسائل الإعلام دورا مهما في تعزيز الوعي الوطني، فهي أدوات للتنوير لا للتضليل، تعرض الحقائق بموضوعية تامة، وتسمح بتعدد الآراء، وتحترم النقد البناء، وتنتهج الشفافية والنزاهة في التغطيات الإعلامية، ليتمكن المبدعون من خدمة مصالح الوطن بعيدا عن أي تدخل أو تأثير، ويكون كلامهم نابعا من القلب، ويصل إلى القلب.
وأول من يجب عليه الالتزام بالنزاهة والشفافية، هم القادة والمسؤولون في الدولة، وأصحاب المناصب العليا والنفوذ، فهم خدام للشعب بجميع أطيافه لا سادة عليه، والمسؤولية في المناصب أمانة لا ميزة لنهب المال العام أو استغلال المناصب، وإدارة الموارد الموكلة إليهم بما يخدم الصالح العام، ويحمي حقوق الذين يعيشون تحت وطأة الفقر والبطالة والظلم والفساد من عشرات السنين.
فالوطن لا يقوم فقط على الأسس المادية كإنشاء البنية التحتية وتقوية الاقتصاد، بل يقوم أيضا على الأسس المعنوية كالشعور بالعدالة والمساواة والتعاطف والتعاون والتعايش والتضامن، هو مساحة للجميع، بغض النظر عن الخلفيات، والثروات، والعقائد، وأرصدة البنوك والحسابات، لا بد من أن يشعر المواطن فيه بأنه جزء من شيء أكبر من هذه الانتماءات المحدودة بكثير، وله دور مهم في تقدمه ورفاهيته، لا إنسان يعيش على جانب الطريق أو يعيش على هامش الحياة، كل مواطن له دور في الحفاظ عليه وتعزيز أمنه وقيمه، ولا ينبغي أن نجعله مجرد متلق سلبي يستهلك ما يقدم إليه من معلومات دون تمحيص أو تفكير، بل إن يكون فاعلا، يشارك بوعي، ويحافظ على موارد وطنه، ووحدته، وقيادته، ويحسن من قدرته، ويحقق أهدافه بالتفاعل الإيجابي وسلامة التفكير في كل مجال.
الوطن ليس مجرد مكان للعيش فيه فقط، بل هو رحلة مستمرة من الحب والعطاء والبناء، ويحتاج من الجميع لأن يكونوا فيه أكثر من مجرد أرقام في سجلات الأحوال المدنية وهيئة الإحصاء.
الوطن أكثر من مجرد مكانا نعيش فيه، فهو مهد هويتنا، ومنبع انتمائنا، وأساس أمننا وأماننا وعزنا وقوتنا وكرامتنا، وليس مكان لمن يسيء استخدام مقدراته، ولو كان من أصحاب الأموال والمناصب والنفوذ، أو ممن يعتقدون إن من حقهم أن يستغلوا مقدراته لمصالحهم الشخصية، أو يتجاهلون حقوق مواطنيه الذين يفترض بأن يقوموا بخدمتهم بصورة كاملة دون الحاجة في كل مرة إلى إعادة النظر في تلك الحقوق.
لا تبرز مشكلة استغلال أصحاب المال والمناصب والنفوذ لمقدرات الوطن إلا في الدول التي تعاني ضعف النظم الرقابية، أو وصل سرطان الفساد فيها للنخاع، ففي هذه البيئات فقط، يسيطر المسؤولون والنخب السياسية والاقتصادية على الموارد الطبيعية والمالية للدولة، ويستخدمونها لإثراء أنفسهم، وعائلاتهم، وتعزيز سلطاتهم ونفوذهم، ويتركون مواطنيهم في الجهة المقابلة يعانون نقص الخدمات، والفقر، والجوع، ويأكلوا من الـ (تبن) في بلدانهم طوال العام.
وفوق هذا الهم والغم ينظر إليهم من يسمون أنفسهم بالنخب على أنهم طفيليات وحشرات وعبء كبير على الدولة يجب التخلص منه بديلا من اعتبارهم شركاء في الوطن والتنمية، هذه النظرة لا تقلل فقط من قيمة الأشخاص فقط، بل تظهر أيضا عدم احترام دور الموطن الذي يلعبه في بناء وطنه والمحافظة عليه، وتعكس فلسفة ماركسية قديمة مفلسة ترى المواطن مجرد أداة لتحقيق أهداف النخب السياسية والاقتصادية، وتؤدي إلى نتائج سلبية، وبيئة يزدهر فيها الفساد، ويستغل أصحاب النفوذ والمناصب نفوذهم ومناصبهم لخدمة مصالحهم الضيقة، وتهدر الموارد التي كان من المفترض أن تستخدم في التطوير والتنمية، ويستفيد القليلون من الثروات، بينما يعاني الأغلبية انعدام الفرص، ويزداد الفقر انتشارا، والاستياء المخفي يُمرر من تحت الطاولة، أو إن قلت من تحت الرماد لا مشكلة، وترتفع أنزيمات كبد المجتمع، وتُعلن الوزارة المختصة إصابته بعدم الاستقرار والتليف، ويشعر المواطنون بالظلم وعدم المساواة، مما يؤدي إلى الاضطرابات الاجتماعية المخفية والشعور العام بعدم الاستقرار وانعدام الثقة.
وحدها الشفافية وتطبيق مبادئ المساءلة من يضمن استخدام مقدرات الوطن لصالح الوطن، وبناء أنظمة قضائية مستقلة قادرة على محاسبة الفاسدين وحماية حقوق المواطنين من أن تنتهك، وتمكين منظمات المجتمع المدني بالعمل كمراقبين ومدافعين عن مصالح الوطن، وتثقيف الناس بأهمية الشفافية ومحاربة الفساد، فالوطن ميراث مشترك بين جميع مواطنيه، ويجب أن تدار مقدراته بطريقة تضمن رفاهية المجتمع.
عندما يتحول المواطنون في نظر أصحاب المصالح والمناصب والنفوذ لمجرد أدوات وطفيليات وحشرات، فإن هذا يشير إلى وجود خلل عميق في نظامنا الاجتماعي يحتاج إلى سرعة تصحيح، ولن يصحح إلا بـ :
“لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد، سواء كان أميرا أو وزيرا أو أيا كان .. كل من تتوفر عليه الأدلة الكافية سيحاسب”.
عبارة قوية يلتزم بها ولي العهد بتصحيح هذا الخلل، وتطبيق القانون على نحو عادل وشامل ودون استثناء أو تمييز على الكبير قبل الصغير، وما جاءت هذه العبارة في سياق حديثه جزافا، بل هي تعبير صادق عن تطبيق سياسة صارمة تتبناها قيادتنا، والعدالة ستطول الجميع، بغض النظر عن مكانتهم ومراكزهم الاجتماعية والسياسية، والقوانين تطبق على الجميع بالتساوي، ولا وجود لفرد فوق الشرع والقانون بعد الآن بناء لمنصبه أو موقعه أو نفوذه أو اسم عائلته أو قبيلته أو مقدار أرصدته وثروته أو قربه من الحكام أو بعده.
مثل هذه التصريحات القوية تبرد القلب يا ولي العهد، وتعزز الثقة بين المواطنين والحكومة، وتظهر الجهود المبذولة للقضاء على الفساد وتحقيق الشفافية، وتعزز الثقة في نظامنا القضائي الذي لن يفلت منه إن شاء الله فاسداً من عقوبة، ولن تكون عنده لأي شخص حصانة مهما كانت مكانته في حال تورط في قضية لأنه ابن فلان.
محمد الفريدي