الوطن.. ليس له ثمن

ليس ثمَّة شك أن كل من يتأمل حال العالم اليوم، يُصاب بالدوار، من فظاعة ما يرى ويسمع عن تلك الفوضى العارمة، التي قال عنها مشعلوها كذباً إنها (خلاَّقة)، إذ تجرَّدت من كل القيم والأخلاق، ووضعت العالم كله على صفيح ساخن. فمن مؤامرات تحاك بليل، إلى عمالة وضيعة، تشعل فتيل الفتنة؛ فينشب قتال هنا، وتستعر نار حروب أهلية هناك، يتم فيها تجاوز كل الخطوط الحمراء، فيعم الخراب والدمار.
وللأسف تنقل الأخبار كل يوم مأساة شعب هنا أو هناك، هائمين على وجوههم.. هذا هو حال البشر المقهورين. أما حال تلك الأوطان المغلوبة على أمرها، فيبدو أنه في حياة كثير منها هذه الأيام (بروتس) خاص به. وكم يود هذا الوطن الجريح أو ذاك، الذي يئن مما أصابه من غدر، أن يقول بأسىً: حتى أنت يا بروتس؟! فليمت قيصر إذاً؛ وخيبة الأمل، التي تشعر بها تلك الأوطان، وجسَّدتها أشهر طعنة خيانة في التاريخ، كما جاء في مسرحية شكسبير الشهيرة تلك.
وإني على يقين تام، أنه ما ضاع وطن، إلا بسبب بعض بنيه الجهلة المجردين من كل خلق قويم. فقطعاً أمثال أولئك لا يدركون قيمة الأوطان، ولهذا لم يترددوا لحظة في بيعها للغزاة بثمنٍ بخسٍ.
أجل، الوطن ليس له ثمنٌ وإن غلا؛ فمهما أُعطِي الإنسان المخلص لبلاده ولشعبها ولترابها ولسمائها من ثمن، لن يفكر في مقايضته حتى بحبة رمل واحدة من ثرى بلادها؛ إذ كيف يبيع إنسان المكان الذي وُلِدَ فيه أجداده وآباؤه، وينتسبون إليه، وأكسبههم هويتهم التي يُعْرَفون بها؟!.
قطعاً أمثال أولئك لا يدركون قيمة الأوطان التي حضَّ القرآن الكريم على المحافظة عليها، إذ جعل الله سبحانه وتعالى الحفاظ على الوطن قرين حب النفس والخوف عليها من الهلاك، كما جاء في قوله تعالى، في الآية (66) من سورة النساء: (و لو أنَّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم)، ففي الآية الكريمة دليل على صعوبة الخروج من الديار، إذ قرنه الله تعالى بقتل النفس لأهمية الديار ومكانتها عند أهلها.
وها هو أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، يدعو ربَّه سبحانه وتعالى أن يجعل بلده آمناً ويرزق أهله من الثمرات، كما جاء في الآية (126) من سورة البقرة: (وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير).
وفي حب الديار أيضاً يقول من أرسله ربُّه رحمة للعالمين، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهو يودِّع مكة المكرمة، يوم أخرجه قومه منها: (ما أطيبك من بلد، وما أحبك إليَّ، و لو لا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنت غيرك).
وها هو أخي العزيز دايم السيف، يتغنى بحب الوطن في قصيدة رائعة:
عفَّ الزمان وكل شيء معه عفَّ
إلا الوطن والله ما عنه عفيت
وهذا هو أخي العزيز البدر المنير، الذي لن يغيب عن قلوبنا حتى إن رحل مهندس الكلمة، يؤكد أن داره أغلى دار في الدنيا، وإن كانت ثرى:
فوق هام السحب لو كنتي ثرى
فوق عالي الشهب يا أغلى ثرى
ويوافقهما أخي شبيه الريح، الذي لا يرى داراً في الدنيا كلها تشبه دارنا:
ومن مثل هذه الأرض في الأرض كلها؟
ورايتها التوحيد والسيف والذكر
ليس هذا فحسب، بل تغنى الشعراء من قديم بحب الأوطان وتفاخروا بها واعتزوا بأهلها؛ فها هو زهير بن أبي سلمى ينشد منذ (14) قرناً:
وللأوطان في دم كل حرٍّ
يدٌ سلفت و دَيْنٌ مستحق
وها هو أبو تمام الذي يقرر أنه لا يوجد في الدنيا أحدٌ أحق بحنينه من داره:
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
واسمعوا معي لابن الرومي وهو يؤكد أنه لن يبيع داره مهما قدموا له من عروض سخية وإغراءات:
ولي وطنٌ آليت ألاَّ أبيعه
وألاَّ أرى غيري له الدهر مالكاً
بل من فرط حبه لوطنه، يراه بمثابة الأم، ومن يعقُّه كأنما عقَّ أُمَّه:
موطنُ الإنسان أمٌ فإذا
عقَّه الإنسان يوماً عق أُمَّه
وأختم هنا بما قاله أحمد شوقي، أمير الشعراء، الذي بالغ في حب وطنه، مؤكداً أنه لن ينساه حتى إن كان في جنَّة الخلد:
وطني، لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وعليه: أتمنى على الجميع في يومنا الوطني المشرق السعيد هذا، أن نعاهد ربنا عزَّ و جلَّ، ثم نعاهد قيادتنا الرشيدة، ونعاهد أنفسنا، على أن نحمل وطننا دوماً في حدقات عيوننا؛ فنكون عوناً له للنهوض والتنمية، وأن يتصدر العالم في كل المجالات.. وليس ذلك ببعيد على إرادة السعوديين الثابتة ثبات طويق، كما يؤكد ولي عهدنا القوي بالله الأمين دوماً.
فلنتوجه في يومنا السعيد هذا بالتهنئة القلبية الصادقة لقيادتنا الرشيدة، مؤكدين لولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين حبنا له، وتلك القصور العامرة التي شيدناها له في قلوبنا، مرددين مع أخي العزيز شبيه الريح:
ألا أيها المحبوب طبعاً وشيمة
ففي قلب هذا الشعب يُعلى لك القصر
فكل عام الجميع بخير، ووطننا في أمن وأمان واطمئنان ورخاء واستقرار وسلام.
اللواء الركن م. الدكتور
بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود