كُتاب الرأي
الواسطة، سرطان العدالة وصراع المجتمع مع اللاكفاءة
الواسطة، سرطان العدالة وصراع المجتمع مع اللاكفاءة
لا يكاد يختلف اثنان على أن الواسطة أصبحت من أبرز التحديات التي تعيق مسيرة العدالة والتنمية. لم تكن في أي يوم مجرد سلوك فردي يمر مرورًا عابرًا، لكنها آفة متجذّرة تُفرغ القوانين من مضمونها، وتُقصي الكفاءات، وتفتح أبواب الفساد على مصاريعه.
فالوظائف تُمنح أحيانًا لمن يملك “علاقات وصلات” وليس لمن يملك “كفاءة”، والمناصب تُوزع على أساس العلاقات وليس الاستحقاق، والفرص التعليمية تُتاح وفق النفوذ لا وفق التفوق. وهكذا تتحوّل من مجرد استثناء إلى قاعدة تُرسّخ غياب العدالة وتُضعف ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
معنى هذا أنها تُعد واحدة من أبرز المشكلات الاجتماعية والإدارية التي تعاني منها مؤسسات المجتمع المدني بكافة أطيافه ومختلف قطاعاته حتى باتت تُوصف بحق بأنها آفة العصر، كونها لا تقتصر على أنها سلوكًا فرديًا خاطئًا غير مرحب به يمر عابرًا وينتهي، غير أنها تُعد ظاهرة ممنهجة تُلقي بظلالها على منظومة العدالة والشفافية وتكافؤ الفرص، وتشكل عائقًا أمام التنمية الشاملة.
إذن الواسطة هي: تدخّل شخص ذي سلطة أو نفوذ أو علاقة شخصية؛ للحصول على منفعة أو تجاوز نظام أو تحصيل فرصة لا يستحقها صاحبها وفق المعايير الموضوعية. وبذلك فهي تختلف عن الشفاعة الحسنة أو الدعم المشروع الذي يحقق مصلحة عامة أو يُنصف مظلومًا، إذ إن جوهر الواسطة يقوم على المحاباة على حساب الاستحقاق.
إن أخطر ما فيها أنها تُحبط النفوس وتزرع في الشباب شعورًا بالعجز، فيتساءل: ما جدوى الجهد إذا كان القرار بيد الواسطة؟ وما قيمة التفوق إذا كانت المقاعد محجوزة مسبقًا؟ وهنا تكمن المأساة؛ إذ لا ينهض مجتمع يفقد أبناءه الأمل في أن يكون التفوق العلمي والمهني هو المعيار الحقيقي للفرص.
مواجهة هذه الظاهرة مسؤولية مشتركة؛ تبدأ من إرساء الشفافية في مؤسسات الدولة، وتعزيز الرقابة والمساءلة، ونشر ثقافة الوعي بخطورتها، وتنتهي بتأكيد قيم العدالة والجدارة في وعي الأجيال.
لقد بتنا اليوم أحوج ما نكون إلى رسالة واضحة: ألا مكان للواسطة في مجتمع يسعى للتنمية والنهضة. ينبغي على الجميع معرفة أنّ الأوطان لا تبنى بالمحاباة، إنها تبنى بالعدل، ولا تنهض بالعلاقات الشخصية، إنما بالكفاءات التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
لقد أمست قضية الواسطة واحدة من التحديات الكبرى في المجتمعات، وسيكون لها آثار وخيمة على الفرد والمجتمع. إذا لم يتم القضاء عليها واجتثاثها من الجذور.
ويمكن اتخاذ عدة خطوات استراتيجية وتدابير وقائية للقضاء على المحسوبية منها:
1./ تعزيز الشفافية: يجب أن تكون كل العمليات الإدارية والوظيفية واضحة وقابلة للتتبع من قبل الجميع. يمكن تحقيق ذلك من خلال نشر المعايير الواضحة لاختيار الأشخاص وتعيينهم في المناصب بناءً على الكفاءة فحسب.
2./ الاستثمار في التعليم والتوعية: نشر الوعي حول أضرار الواسطة وكيفية تأثيرها في المجتمع يمكن أن يُحدث تغييرًا طويل الأمد. إذا فهم الناس الأضرار الحقيقية التي تنتج عن هذه الظاهرة، قد يرفضونها بشكل جماعي.
3/ تطبيق قوانين صارمة ضد الواسطة: هناك حاجة لتشديد العقوبات على من يمارسونها، سواء كان ذلك في العمل أو في أي سياق آخر. يجب أن تكون هناك آليات قانونية واضحة للتحقيق مع أي شخص يُتهم بتقديم أو الاستفادة من تلك الآفة.
4/ إصلاح الأنظمة الإدارية: في المؤسسات الحكومية والخاصة، من الضروري أن تكون هناك معايير واضحة لاختيار الأشخاص والمساواة في الفرص. يمكن استخدام تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي لتحسين اختيار الموظفين على أساس الجدارة.
5/ دعم المسؤولية الاجتماعية: إذا كان هناك تأثير اجتماعي سلبي للواسطة، يمكن للمجتمع بأسره التصدي لها من خلال رفض قبولها في أي سياق، والضغط على الجهات المعنية لاتخاذ خطوات فعلية لمنعها.
6/ تعزيز ثقافة الكفاءة: المجتمع يحتاج إلى نشر ثقافة الكفاءة والمهنية، بحيث يُكرم الشخص بناءً على قدراته وإنجازاته بدلاً من العلاقات الشخصية. هذا يمكن أن يبدأ من خلال نماذج يحتذى بها سواء في المؤسسات أو من خلال الإعلام.
7/ مشاركة الجمهور في القرارات: يمكن إشراك المواطنين في اتخاذ القرارات الخاصة بتوظيف المسؤولين أو تنفيذ المشاريع. مشاركة الجمهور يُسهم في ضمان أن يتم اتخاذ القرارات على أساس الجدارة والنزاهة.
8/ اعتماد نظام آلي قائم على اختيار الموظفين بعناية تامة عن طريق منصات رقمية ذكية تُفرز المتقدمين آليًا وفق معايير محددة (المؤهل، الخبرة، الاختبار) دون أي تدخل بشري حتى لحظة المقابلة.
9/ تتم مراقبة النظام من جهة مستقلة ويفضل أن تكون نزاهة أي يتم ربط كل المعلومات بهيئة مكافحة الفساد، هذا وحده مؤشر قوي للتغلب على هذه الآفة.
10/ يجب على كل جهة أن تنشر بشكل دوري أسماء من تم تعيينهم على معايير الاختيار وأيضا نشر نتائجهم الموثقة، هذا يمنحنا ارتياح أن هناك سجل شفاف للمناصب والتعيينات. كما يخلق رقابة شعبية وردعًا لأي محسوبية.
أعتقد أن المؤسسات الذكية ينبغي عليها إذا ما أرادت النمو والازدهار وتحقيق الانتاجية العالية والمنافسة القوية عليها يقع مسؤولية ليست مفروشة بالورد والزهور إنما يتعين عليها استحداث منصة مفتوحة تُمكّن أي موظف أو مواطن من الإبلاغ بسرية عن حالات الواسطة، مع متابعة آلية للبلاغ حتى يتم التحقيق، بعدها تُنشر إحصاءات دورية بعدد البلاغات والإجراءات المتخذة، مما يجعلها أداة ضغط مجتمعية.
11/ إدخال مفهوم العدالة الوظيفية في المناهج التعليمية، وتضمينها بقصص واقعية عن أشخاص نجحوا بالجدارة لا بالواسطة. ويفضل أن يبدأ هذا المفهوم من الابتدائية حتى الجامعة، يتعلم الطالب أن العدالة قيمة وطنية وليست شعارًا أخلاقيًا، فالتربية من الجذور هي سلاح فعال وأسلوب تربوي متين.
12/ استخدام الفن والإعلام كسلاح ثقافي مثل مسلسلات، أفلام قصيرة، أو إعلانات تعرض قصص أشخاص خسروا فرصهم بسبب الواسطة، وأثر ذلك في حياتهم.
فإذا أراد المجتمع أن يخطو بثبات نحو المستقبل، فعليه أن يُدرك أن مواجهة هذه الآفة ضرورة وجودية، وأن معيار النجاح الحقيقي يكمن في الكفاءة والجدارة لا في النفوذ والعلاقات. فالواسطة قد تُحقق مصلحة فردية مؤقتة، لكنها تُلحق أضرارًا بعيدة المدى بمؤسسات الدولة وثقة المواطنين، وتُبطئ عجلة التقدم.

