جياعُ غزّة.. و”دايت” ترامب
جياعُ غزّة.. و”دايت” ترامب
محمد الفريدي
يبدو أنَّ هذا الترامب المعتوه لا يأكلُ إلا على وقعِ المجازر في الشرقِ الأوسط، يمضغُ اللحمَ بينما أطفالُ غزّة يمضغون التراب.
يتحدّث عن “رفاهية الغذاء” و“اقتصاد اللحوم” و“الوجبات الصحية”، بينما أطفالُنا في غزّة يذوبون على الشاشات كقطعِ ثلج في جحيمٍ إسرائيلي لا يرحم، جحيم لا يراه، أو بالأحرى لا يريد أن يراه.
يراهم يتطايرون كأوراق في الريح، ثم يمدّ يده إلى موائده العامرة، يحصي السعراتِ الحرارية قبل الأكل، ويحسب الدهونَ الثلاثية، ويتذمّر من سوء “الدايت” الذي يتّبعه، كأنّ العالمَ بلا جوع إلا جوعَه المصطنع.
يتحدّث عن “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وعن انتصار قادتها على العُزّل، بينما نتنياهو وشِلّتُه المجرمة يرون أن من حقّهم أن يحرقوا الأطفال، ويقصفوا المستشفيات، ويدفنوا المدنَ والأحياءَ تحت الركام، في أكبر جريمةِ إبادةٍ جماعيةٍ لم يشهدِ العالمُ مثلَها من قبل. ويصفّق لهم هذا المعتوه في الكنيست، بأيد ملوثة بالخزي والعار، بدلا من أن يُسلَّموا إلى العدالة.
ترامب لا يدعمُ الإسرائيليين فقط، بل يمضغُ معهم لحومَ الفلسطينيين، ويشربُ من دمائهم، ويرفعُ نخبَ “النصر على الأطفال والنساء” على موائدِ الصمتِ عن مجازرِهم، ويقدّمُ صكوكَ الغفرانِ للقتلةِ المجرمين، تحتَ شعارِ “تحالفِ الحريةِ والديمقراطيةِ وأمنِ دولةِ البطشِ والعدوان: إسرائيل”.
لا يرى في غزة سوى “ساحة تدريب” للانتخابات القادمة وورقة للحصول على جائزة نوبل للسلام، ولا يرى في نتنياهو إلا مرآة لوجهه العنصري القبيح، المبتسم على رماد الأحياء والأموات.
ونحن رأينا أطفالَ غزّة مثل هذا المعتوه جائعين، ولم نحرّك ساكنا أيضا، وواصلنا متابعةَ البرامج المسلّية، وتحليلاتِ مباريات كرة القدم، والأحاديث عن آخر صيحات الطعام، وعن “الغذاء الصحي”، و”المنتجات العضوية”، و”الخبز الخالي من الجلوتين”، والنقاءَ الذي نبحث عنه في طعامنا فقدناه، في الحقيقة، حتى في إنسانيّتِنا.
أيُّ زمن هذا الذي صار فيه موتُ أطفالِنا جياعا مشهدا عابرا عند ترامب ونتنياهو وعندنا في نشرةِ الأخبار؟
أيُّ إنسان بقي فينا حين صار الجوعُ مادة بصرية تُستهلك بين وجبتين؟
أطفالُنا في غزّة لا يموتون من الجوعِ فقط، بل من فرطِ نظرِنا إليهم دون أن نمدَّ إليهم يدَ المساعدة والعون.
يموتون جوعا ونحن نرتشف قهوتَنا في المقاهي بطمأنينة وهدوء، ونتفرّج على حياتِهم وهي تنزف أمام أعينِنا بلا رحمة، وبدون حتى ردّة فعل.
يموتون لأنّ العالمَ المتخمَ بالبروتينات لا يحتملُ صورَهم، فيكتمُ تأوّهاتهم بالصمت، ويغلقُ قلبه كما تُغلقُ أبوابُ الثلّاجات.
ترامب يعرف أسماء الجياعِ واحدا واحدا، ويعرف من فقدَ بيتَه، ومن فقدَ طفلَه، ومن فقدَ القدرةَ على البكاء.
لكنّه يقف على الضفّةِ الأخرى من الوجع، يراقب ولا يشجبُ حتى سياساتِ القتل والتجويع، ونحن كل ما نفعله نلعنُ نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وخالد مشعل وأسامة حمدان وخليل الأفعى، ثم ننتهي عند حدود الكلام، فيما الدماءُ تتدفّق بلا توقف، والأطفالُ يموتون ونحن نغلقُ أعينَنا على المأساة.
ثم نعودُ إلى صمتِنا الدافئ، خلفَ جدران مشبعة بالترفِ والتخمّة، ونرفعُ أيدينا بالدعاء أن يُديمَ اللهُ علينا نعمته، غيرَ مُدرِكين أن النعمةَ التي لا تُقاسِمُ الجائعين جوعَهم ليست نعمة، بل عارٌ يلمعُ فوق موائدِنا، يُغطّي على دمائِهم التي تسيلُ في صمت رهيب، وعلى وجوهِهم التي تتلطّخُ بالترابِ بدلَ الطعام، وعلى صرخاتِهم التي لا تصلُ إلّا إلى آذان مؤصدة أمام ذُلِّ الجوعِ والألمِ والمذلّةِ والمعاناةِ.
عذرا أطفال فلسطين، فنحن مسموحٌ لنا أن نرفعَ الأكفَّ بالدعاء، ولا يُسمح لنا أن نرفعَهُما بالعطاء والدفاع عنكم، ونبكي عليكم قليلا ثم نُكمِل حياتَنا، كأنّ دماؤكم التي سالت في غزّة لا تجري في عروقنا، وكأنّ صرخاتكم لم تُكتب في سجلّ ضمائرنا، وكأنّ العدالة في هذا العالم مجرد كلمة على أوراق تتطاير في الهواء.
نرفع أصواتَنا على وسائلِ التواصل، نصرخُ بالهاشتاقات، ونبصقُ الكلماتِ الغاضبةَ على الشاشات، ثم نمسحُها قبل النوم، كما نمسحُ بقايا الطعامِ التي أنتم بحاجتها من أفواهِنا، وننام.
نصنع من مأساتنا مشهدا ترفيهيّا، ومن دمائنا محتوى إعلاميا مضحكا، ومن جوع أطفالنا في غزّة قصصا قصيرة للتسلية، ثم نواصل حياتنا اليومية كأنّ شيئا لم يكن.
نحن لا نأكلُ من أجل البقاء، بل من أجل النسيان. نغرسُ شوكَ السكاكينِ في اللحمِ كي لا نسمعَ أنينَكم، ونغمسُ خبزَنا في الصلصةِ الحمراءِ كي لا نرى وجوهَكم التي امتلأت بالدماءِ وأنتم تأكلون الهواء.
كلُّ لقمة نبتلعها فوق جثثكم تشهدُ علينا: أننا خُنّا بطونَ الجائعين، وتواطأنا مع الشِّبع ضدكم، وأنّ الخبزَ في أفواهِنا أثقلُ من ضمائرِنا التي صارت بلا وزن. فما أشدَّ مرارةَ الشِّبع حين يُؤكلُ على مائدة غابَ عنها نُصرةُ المظلوم، وحضرتْ فيها خيانةُ الإنسانِ لأخيه الإنسان.
جوعُ أطفالِ غزّة يُحصى بالأرقام، وجوعُنا يُقاسُ بالفواتير. هم يدفنون أبناءَهم تحت التراب، ونحن نلتقط صورا لأطباقنا الفاخرة في كل مكان. هم يبحثون عن كسرةِ خبز، ونحن نبحث عن نكهات جديدة. كلُّ لقمةٍ نبتلعها دون أن نشعر بالحزن عليهم، والله، هي صكُّ موت نوقّعه بأيدينا.
أيُّ قلب هذا الذي لا يتصدّعُ حين يرى طفلا يبحثُ عن لقمةٍ بين الركام؟
وأيُّ بشر هؤلاء الغربيون الذين يساومون الجياعَ على لقمةِ يتيم؟
لقد باتَ العالمُ مطبخا كبيرا لرغباتِه، يطبخُ الغفلةَ والسكوتَ، ويُتبّلُها بالأنانية، ويقدّمُها لنا على أطباق من المذلّةِ والعار.
في غزّة يا ترامب، الأمهاتُ يطبخنَ الألمَ، يَغْلين ماء بلا طعام ليقنعنَ أبناءَهنّ أنَّ عشاء قادما في الطريق. يقطعنَ قلوبَهنّ ويقدّمنَها بدلًا من الخبز. في غزّة، الرجالُ يجرّون أجسادَهم كظلال جائعة تبحثُ عن معنى الكرامة. فالجوعُ هناك، يا معتوه، يا أعمى، لا يطرقُ الأبوابَ، بل يسكنُ البيوتَ والخيامَ منذ زمنٍ طويل.
أمّا أنتَ، فتعيشُ تخمةً من الأكاذيب، وتظنّ أنك “تُناصرُ الجياع”، بينما كلُّ ما تفعله هو مشاركةُ منشور لا يُطعِمُ جائعا، ولا يُوقِفُ نزفَ طفل. تُظهِرُ غضبَك خلفَ شاشات باردة، وتظنّ أن حروفَك وكلماتِك كفيلةٌ بترميمِ الخراب. لكنّ الحقيقةَ أننا نعرفُ غضبَك الافتراضي، الذي لا يتجاوزُ أطرافَ أصابعِك ولسانِك، وأنّ الجائعين هناك لا يرونَ منك سوى صمتِك، وصمتَ العالمِ من خلفِك، وصورتَك وأنت تكتبُ منشورًا آخر… وتنام.
تمارسُ الإنسانيةَ الافتراضية، وتمنحها “إعجابا”، ثم تغلقُ هاتفَك وتغطُّ في نوم عميق على وسائد صنعناها لك من غيبوبتنا.
طفلٌ واحدٌ من غزّة أسقطَ إنسانيتك وإنسانيةَ العالمِ بأكمله، ولقطةٌ واحدةٌ لجسدِ طفل صغير مُغطّى بالغبار تفضحُ أكاذيبَك وأكاذيبَ التحضّرِ الغربيّ الذي تتباهى به.
أينَ عالمُك المتحضّرُ الذي يبكي على كلبٍ ميتٍ على الإسفلت في الإكوادور؟
لماذا يصمتُ أمامَ مجازرِ الجوعِ التي ترتكبُها إسرائيل؟
أَلِأنَّ الدمَ فلسطينيٌّ لا يشكّلُ لكم أهميّة؟ أم لأنَّ الطفلَ الفلسطينيَّ لا يليقُ بصورةِ “الإنسانِ الأبيضِ النبيل” الذي يبكي فقط خجلا منذ ثمانِ عقود حين يرى نفسَه في المرآة؟
أنتَ وحكومتك شركاءٌ في جريمةِ الإبادةِ، وكلّ من يصمتُ من شعبِك عن جرائمِ القتَلةِ الصهاينةِ شريكٌ، وكلّ من يبرّرُ أو يصفّقُ لِنِتَنياهو فهو قاتلٌ مثله، ويداهُ ملطختانِ بالدماءِ. فالإبادةُ لا تُقترفُ بالسلاحِ فقط، بل بالصمتِ الذي تمارسه، وبالدعمِ والتصفيقِ لهؤلاء المجرمينَ.
يا أطفالَ غزّة، سامحونا إن استطعتم أن تسامحونا. سامحونا، فقد أحببنا شاشاتَ جوالاتنا أكثرَ من وجوهِكم الملطخةِ بالدماءِ، وموائدَنا العامرة أكثرَ من بطونِكم الجائعة. سامحوا من نامَ منا شبعانا، وهو يعلم أنكم جياع.
سيبقى أطفالُ غزّةَ ينامونَ على صمتِنا، وسيبقى ترامبُ ومن على شاكلتِه يأكلونَ على جثثِهم، حتى يتقيأونَ أنفسَهم من التخمةِ والخجلِ والعارِ.
غزّة اليوم ليست جرحا فلسطينيّا نازفا فقط، بل اختبارٌ عالمي للأخلاق والقيم.
إن لم نصرخ لأجل أطفالها اليوم، فلنصمت إلى الأبد عن أيِّ حديث عن نصرةِ الضعفاء والمستضعفين،
ومن لم يتألّم لجوعهم، فلا يتحدّث عن الرحمة بعد الآن، ومن لم يرتجف أمام صورهم، فليعلم أنّه فقد آخرَ ذرة من إنسانيّته، بل فقد قلبه كلَّه، واستبدله بجماد لا يعرف معنى النبض، ولا يسمع الأنين.
العارُ ليس أن يموتَ أطفالُ غزّة جوعا، بل أن نعيشَ نحن بلا وجع بعد رؤيتِهم وهم يموتون. والجريمةُ ليست في حصارِ غزّة وحدَها، بل في حصارِ ضمائرِنا التي تلاشى منها الضمير.
لقد تحوّلنا إلى أمّة تستهلك المآسي كما تستهلك الطعام: بسرعة، وبلا طعم، وبلا شعور، ثمّ ترمي الفائضَ عن حاجتِها في حاوياتِ النسيان.
في زمنٍ تختلطُ فيه المآسي بالخوارزميّات، صار الجوعُ والتجويعُ مشهدا لا يُثير الشفقةَ ولا الدهشة، وكلّما ازداد عددُ الضحايا، ازدادت برودةُ العالم من حولنا بشكلٍ لا يُصدّق.
لم يعُد الموتُ صادمًا كما كان من قبل، بل صار مألوفا، وصار العذابُ خلفيّة لأحاديثِنا اليوميّة. فيا إلهي، ألهذا الحدِّ أصبحنا قساة؟!
رُبّما سيسألُنا التاريخُ يوما: أين كنتم حين مات أطفالُ غزّةَ جوعا؟
ولا أظنُّنا سنُجيبُ إلا بخجل وارتباك:
كنّا نأكل ونشرب، نعم، كنّا نأكل ونشرب، وننسى أن كلّ طفل يجوع اليوم سيترك أثرا لا يُمحى في ضمائرنا غدا، وأن صمتنا هذا سيكبر مع الوقت ليصبح جزءا من جريمة نشارك فيها جميعا دون أن نشعر بحجم الخذلان الذي ارتكبناه بحقّ تجويع الأطفال والإبادة التي ترتكبها أمريكا وإسرائيل، ونظلّ نتابع حياتنا اليومية وكأننا لن ننهار يوما من الأيام.
غزّة ستبقى تنزفُ فينا، مهما حاولنا الاختباءَ خلفَ عجزِنا أو قوّتِنا، سيظلّ صراخُ أطفالِها يطاردُنا في منامِنا، وحتى ونحن نضعُ ملاعقَنا في أفواهِنا، ستظلّ صورُهم تخرجُ لنا من مساماتِ خبزِنا، ومن أبخرةِ قهوتِنا، ومن ضجيجِ موائدِنا، لأنّ الإبادةَ الجماعيةَ التي نحاولُ نسيانَها لا تُنسى، ولأنّ دماءَنا التي تُراقُ هناك لا تجفُّ إلّا على يقظةِ ضمائرِنا، التي تصرخُ فينا كلَّ لحظة بأنّنا أسرى لتقاعسِنا.
كاتب رأي



مقال ينزف المآ لمعاناه اهالي غزه
حسبنا الله ونعم الوكيل
لم يقل النبي صل الله عليه وسلم لايضرهم من عاداهم وانما قال من خذلهم !؟
فالعدو لايتوقع منه غير الاذي اما الخذلان فياتيكً ممن تحب لهذا هو اكثر مراره من العدوان
الخذلان ان لاتعطيهم السلاح اما ان يجوعوا فهذا هو العار
تقول الاخبار وجد بيت شعر مكتوب
علي احد سيوف العرب
في الجبن عار وفي الاقدام مكرمه
والمرء في الجبن لا ينجو من القدر
والمتنبي يقول :-
اذا لم يكن من الموت بد
فمن العار ان تموت جبانا
اللهم وحد صف امتنا العربيه والاسلاميه واجمع شملهم ووحد كلمتهم واكفهم شر الهوان
أستاذي أبو وعد، جزاك الله خيرا على كلماتك القلبية الصادقة.
ما قلته وجعٌ حقيقي — فالخذلان من الأقرباء أشدُّ ألما من عدوان العدو، والعارُ الحقيقي أن يُترك الإخوة يموتون جوعا بلا نصرة ولا دعم ولا معين.
أدعو معك أن يلمَّ الله صفَّ أمتنا ويوحّد كلمتها على الحق، وأن يمدَّ إخواننا في غزّة بالغذاء والدواء والحماية، وبصوت كصوت المملكة يصدح بالحقّ في المحافل الدولية.
ولا يخفى علينا أن الدعاء وحده لا يكفي؛ فواجبُنا التضامنُ العمليّ معهم أيضا، بالدعم الإغاثي، ونشر الوعي، وبكلّ فعل صغير قد يخفّف عنهم.
اللهم اكفهم شرَّ الهوان، وامنع عنهم البلاء، واجمع كلمتهم على ما يرضيك يا ربّ العالمين.
أبو سلطان